الطبيعة الدولية لعقد التأمين:
نعلم أن الغاية من التأمين هي تحقيق الأمان و الطمأنينة للمستفيدين عبر تجميع الأخطار و توزيع الخسائر، و إذا كان التأمين بمفهومه الفني يتصل بشكل مباشر على أطراف الوثيقة فقط إلا أنه يعززعلى مستوى أوسع الاستقرار الاقتصادي للمجتمع ككل مما يدفع بنمو عملية الاستثمار الاقتصادي .
اليوم و في ظل النمو الهائل لأدوات التجارة الدولية المترافقة مع التمايز النوعي للتكتلات الاقتصادية على مستوى العالم نجد أن دور الشركات العابرة للبحار قد تعاظم بحيث أصبحت ميزانيات هذه الشركات توازي الناتج القومي لكبرى الدول ، ولا أحد يستطيع أن ينكر فضل التأمين كنظام وقائي داعم لأدوات التجارة الدولية عبر التقليل من الخسائر التي قد تعترض أياً من الاستثمارات أو الخدمات أو حتى الأموال العينية الخاصة بها مما زاد من فرص نجاح التجارة الدولية .
فما هي الصفة الدولية لعقد التأمين ؟
لعقد التأمين ماهية خاصة ينفرد بها عن غيره من العقود، فالزمن عنصر جوهري في تكوين العقد ، بحيث يكون هو المقياس الذي يقدر به محل التأمين، إذ لا يتصور من الناحية العملية أن يبرم عقد التأمين دون تحديد مدة واضحة خلالها يتم تغطية المطرح المراد تأمينه ، و لهذا جاء الرأي الفقهي المستقر على اعتبار عقد التأمين من العقود الزمنية محددة الأجل و أن عدم تحديد الإطار الزمني لعقد التأمين يجعله باطلاً .
ليس هذا فقط بل أن لعنصر الزمن مفاعيل قانونية واضحة على عقد التأمين تتكرس بشكل جلي من خلال تاريخ وقوع الخطر و أحكام التعويض وأحكام الفسخ قبل انتهاء المدة و أحكام التمديد و التجديد التلقائي و غيرها.
بالمقابل و مهما اختلفت المدارس الفقهية لا نجد أي أثر قانوني لعدم تحديد الإطار المكاني للتغطية الناشئة عن عقد التأمين ما لم يرد بند خاص يدرج بشكل واضح على متن الوثيقة ، فقد وجد الفقهاء أن لا شيء يمنع من إبرام عقد التأمين على المطرح المؤمن أينما وجد طالما أن مطرح التأمين قابل للتحديد بالكم و النوع بالنسبة للمنقولات أو بالذات بالنسبة للأشخاص أو الأموال العينية . و بعد إبرام العقد فلا يمكن التنصل من تغطية الأخطار الواقعة على المطرح المؤمن أينما وقع الخطر طالما لم يرد في شروط العقد بند خاص يخالف ذلك.
من هنا استطاع عقد التأمين اكتساب الطبيعة الدولية و القدرة التامة على الإستجابة لمتطلبات التجارة الدولية و توفير المناخ الآمن لتعزيز أهدافها من خلال وضع مجموعة من النماذج و المعايير التي أقرَت تاريخياً كأعراف عملت على ضبط النشاط التأميني و حديثاً كإتفاقيات موحدة لكبرى الشركات و وكالات التأمين و حتى الدول.
في النموذج التقليدي لعقد التأمين نجد أن عقد التأمين البحري هو أفضل مثال فليس لأحد أن يتصور وجود وثيقة للتأمين البحري دون أن نطلق العنان للطابع الدولي ، إذ مهما كان مكان وقوع الخطر المؤمن ضده نجد أن الحق بالتعويض للمستفيد هو أمر محقق طالما تم إثباته حسب شروط الوثيقة و نوع التأمين . و خير شاهد على الطبيعة الدولية لعقد التأمين البحري هي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي حررت في هامبورغ عام 1978 . تعزز المفهوم الدولي لعقد تأمين النقل مع تطور وسائل النقل البري التي استطاعت أن تجتاز حدود الدول بحيث أن وثيقة التأمين تخطت الحدود الإقليمية لدولة بذاتها و بدأت بالوصول الى أبعد حدود ، وهنا أبرمت مجموعة كبيرة من الإتفاقيات بين الدول بهذا الخصوص أهمها إتفاقية النقل البري العابر (TIR) عام 1975.
و اليوم نجد أن التأمين على الأموال و الأشخاص هو أمر مقرر جبراً على شركات النقل الجوي فرضته مجموعة من الإتفاقيات الدولية الخاصة بتأمين النقل الجوي تناولت العديد من التطبيقات الخاصة بعقد النقل و تأمين الأخطار الناتجه عنه و خصوصاً لجهة تحديد مسؤولية الناقل ودور عقد التأمين في الحد من هذه المسؤولية .
كيف تكرست الصفة الدولية لعقد التأمين ؟
ما سبق ذكره يؤكد لنا أن التأمين استطاع الإستفادة من الطبيعة الدولية و استثمارها في تقديم أفضل الخدمات التأمينية ليس على مستوى نقل الأموال أو البضائع بل حتى على مستوى التأمين على الأفراد بحيث أمسى التأمين على الحياة أو التأمين الصحي بمثابة شهادة دولية معتمدة في مجموعة غير منتهية من المشافي و المراكز الصحية ووكالات التأمين وشركات الخدمات التابعة لها .
من جانب آخر و حتى لا تتعارض عقود التأمين الدولية مع التشريعات و القواعد المحلية للدول العاملة بها نجد أن العديد من الدول التي تتبع أنظمة اقتصادية موحدة أو متشاركة قد قررت لها إتفاقيات دولية حرصاً منها على استقرار المعاملات التجارية الدولية و مثالها الإتفاقية الدولية لسلامة الحاويات (CSE) لعام 1972 أو أن تلك الدول قد عملت على توحيد نماذج أساسية لكل نوع من أنواع عقود التأمين و التي بدورها تطورت حتى قررت كنماذج دولية لعقود التأمين من أحدثها نموذج الـ (( IFRS مشروع تحديث عقود التأمين دون مشاركة الميزات لعام 2015 .
وفق التصنيف الدولي لعام 2016 نجد أن أهم شركات التأمين التي نالت مراتب متميزة عن أرباحها الصافية للنصف الأول لعام 2016 هي تلك الشركات التي تجد لها عقود تأمين ذات طابع دولي مسطرة وفق نماذج موحدة و معتمدة ، لها مراكز منتشرة في مختلف إرجاء المعمورة ، ووكلاء و شركات خدمات متعددة الجنسيات ، و منها على سبيل المثال لا الحصر:
- Zurich insurance: التي تملك أكثر من 55.000 موظف يعملون في أكثر من 127 دولة جميعهم يتبعون نماذج دولية موحدة لعقود التأمين تغطي كافة أنواع التأمين .
- AXA group :و هي عبارة عن شركة فرنسية ظهرت بشكلها الحالي بعد تحقيق مجموعة من الإندماجات مع اتحاد تأمينات باريس تملك أكثر من 120.000 موظف استحوذت الشركة على مجموعة من الشركات الأمريكية و السويسرية انتشرت هذه الشركة بالنموذج الفرانكوفوني لعقد التأمين في معظم دول العالم
ماهوالقانون الواجب التطبيق على عقد التأمين الدولي ؟
حسب نظرية العقود تخضع كل العقود في تفسيرها و تطبيقها الى مجموعة من التشريعات الوضعية ، و عقد التأمين هو واحد من تلك العقود التي توافقت معظم التشريعات على اعتبارها من العقود الرضائية كون أن للمؤمن له كل الحق في الحصول على التغطيات بأوسع نطاق من الأخطار مقابل قسط يوازي الخطر المؤمن ضده .من جهة أخرى لابد من إيجاد السند القانوني الملائم لتكييف عقد التأمين ذا الطبيعة الدولية و هذا ما شغل فكر فقهاء القانون الدولي الخاص الذين نادوا بتحييد القوانين الوضعية، حيث أن تكييف عقد التأمين في ضوء القواعد القانونية المستقرة للقانون الدولي الخاص يؤدي بالنتيجه الى حماية المراكز المالية للأشخاص المتعاملين ، هذه القواعد التي لا تنظر فقط الى جنسية أطراف العقد بل الى المطرح التأميني بذاته و الى نطاق العقد و مداه الجغرافي .
بالمقابل إن امتداد العلاقات القانونية عبر الحدود يفرز جملة من الأوضاع التي تتطلب تأمين الحماية القضائية لها عند إثارة النزاع بين أطرافها و لهذا نجد أن أعمال قواعد القانون الدولي الخاص لجهة تنازع القوانين و تحديد المحكمة المختصة للنظر في النزاع هو من الأمور الإعتيادية التي درسها القانون الدولي للعلاقات التعاقدية الدولية التي تربط الأشخاص .
كل هذه القواعد تبقى معطلة طالما توجهت إرادة أطراف العقد إلى استثنائها بشكل واضح و الاتفاق على اللجوء إلى قضاء محدد بذاته أو إلى أسلوب آخر من أساليب التقاضي كالتحكيم .
بالنهاية نجد أن الصفة الدولية لعقد التأمين لم تقرر على المستوى الدولي صدفة بل كانت نتاجاً حقيقياً لتطور العلاقات التجارية للأفراد و الشركات و تجاوزها للحدود . هذا التطور التاريخي لعقد التأمين لن يتوقف عند هذا المستوى بل لا بد لنا من أن نشهد في المستقبل أنظمة جديدة في عالم التأمين تفرضها متطلبات التجارة الدولية و حاجات أصحاب المصالح مما يؤدي بالطبع إلى تغيير فعلي في صفات و التكييف القانوني لعقد التأمين و مستلزماته .