تعتمد المحاكم على الخبرة الفنية بالأحكام الصادرة بدعاوى التعويض عن الأضرار التي لحقت بالمؤمَّن له أو بأمواله وممتلكاته, حيث تلجأ المحكمة لإجراء الخبرات الفنية على موضوع الدعاوى المعروضة عليها لتحديد طبيعة الحادث وقيمة الأضرار الناتجة عنه، وذلك بالاستعانة بأشخاص يمتلكون المعرفة والخبرة في هذا المجال، هذا وتلجأ شركات التأمين أيضاً ـ وقبل حدوث أي نزاع قضائي ـ إلى إجراء خبرة على المال المؤمَّن عليه والذي تعرض للضرر من أجل تحديد أسباب الحادث وقيمة الأضرار ومدى تغطية عقد التأمين لتلك الأضرار، وذلك عن طريق شخص يُسمى مسوي الخسائر، والذي يكون متخصصاً بهذا العمل، وبناءً على التقرير الذي يقدمه يتم تحديد كل النقاط الأساسية المتعلقة بالمطالبة.
وهناك أنواع عديدة للخبرة ترتبط بنوع الدعوى وموضوعها وحسب اختصاص الخبراء، فمنها التجارية والهندسية والفنية والطبية والعقارية, إضافة إلى أنواع تتعلق بالجرائم الجنائية كخبرة البصمات وتحديد أسباب الوفاة وأنواع الأسلحة وتزوير العملة والخطوط والأختام وغيرها مما لا يدخل في مجال بحثنا هذا.
ويمكن القول: إن الخبرة القضائية الجارية على دعاوى السير هي الأكثر انتشاراً، نظراً لكون الكم الأكبر من دعاوى التعويض تتعلق بحوادث السير حيث تعد الخبرة القضائية بشقيها (الفنية والطبية) هي أساس الأحكام الصادرة بدعاوى السير التي تكون شركات التأمين طرفاً مدعى عليه فيها، كجهة مسؤولة بالمال عن الأضرار التي تلحق المركبة المؤمَّنة بعقد تأمين يغطي تاريخ الحادث, لذلك تقوم كل المحاكم باللجوء لإجراء الخبرات على حوادث السير موضوع الدعاوى المعروضة عليها لتحديد نسب المسؤولية بين طرفي الدعوى، والوقوف على الأضرار الحاصلة نتيجة الحادث، سواءً الأضرار المادية التي تصيب المركبات، أو الأضرار الجسدية التي تصيب الأشخاص.
غالباً ما تقوم المحاكم باعتماد تقرير الخبراء المقدَّم إليها بهذا الشأن في الأحكام الصادرة عنها لأنها جرت بقرار منها، ومقدَّمة من أشخاص يمتلكون المعرفة المطلوبة للوصول إلى حقوق أطراف الدعوى المتضررين نتيجة الحادث.
وسنقوم من خلال هذا البحث بتسليط الضوء على طبيعة الخبرة وخصائصها وشروطها، وصلاحية القاضي في اللجوء إليها عند النظر بالدعوى المطروحة أمامه، ومدى حجية الخبرة على القرار الصادر بالدعوى، وذلك حسب القوانين الناظمة لذلك.
- تعريف الخبرة:
لم يأت المشرِّع السوري على تعريف محدد للخبرة إلا ما جاء في المادة 138 من قانون البينات والتي نصت على ((إذا تبين للمحكمة أن الفصل في الدعوى موقوف على تحقيق أمور تستلزم معرفة فنية، كان للمحكمة من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب الخصوم، أن تقرر إجراء تحقيق فني بوساطة خبير واحد أو ثلاثة خبراء)).
يُقصد بالخبرة الحصول على المعلومات الفنية في المسائل التي قد تعرض على القاضي ولا يستطيع العلم بها، أي إنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي في المسائل الفنية بعلمها، بل يجب الرجوع فيها إلى رأي أهل الخبرة، وهذا ما نصت عليه المادة /2/ من قانون البينات ((ليس للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي)) وتقتصر الخبرة على المسائل الفنية التي يصعب على القاضي الإلمام بها دون المسائل القانونية, وتقدير طلب الاستعانة بالخبرة أمر متروك لتقدير المحكمة، فالخبرة بوصفها مبدأً عاماً في الإثبات هي دليل يطرح في الدعوى ويمكن الأخذ به متى كان مستوفياً شروطه ومقوماته القانونية.
وفي ضوء هذا المفهوم يمكن تعريف الخبرة: بأنها تدبير تحقيقي يهدف إلى الحصول على معلومات ضرورية بوساطة أصحاب الخبرة والاختصاص من أجل البت في مسائل فنية ذات طبيعة محددة تكون محل نزاع، ولا تلجأ المحكمة إليها إلا عند عدم إدراكها للمسألة المعروضة بنفسها، أو عندما تكون الأدلة المعروضة في الدعوى غير كافية لتوضيحها.
- خصائص الخبرة:
تتناول الخبرة الوقائع والمسائل المادية دون المسائل القانونية والتي يرجع تقديرها للمحكمة وفق نصوص القانون على اعتبار أن الخبرة وسيلة إثبات استثنائية, لأنها لا تخلق دليلاً، فهي لا تتعلق بعنصر مجهول يُراد اكتشافه، وإنما ترد على واقعة موجودة تتطلب معلومات فنية أو طبية ممن تتوافر لديهم الكفاءة والمعرفة، لمساعدة المحكمة في اتخاذ القرار المناسب بالنزاع المعروض أمامها, ومن ثم فالخبرة الجارية في أي دعوى لا تكسب الخصوم حقاً، ليبقى حقهم مكتسباً من الحكم الذي تصدره المحكمة, لذلك فالخبرة هي عمل قضائي يجري تحت إشراف المحكمة وبقرار منها، فلا قيمة للخبرة التي يجريها الخصوم خارج القضاء، وليس للمحكمة الاعتماد على تقرير خبرة جرى بدعوى أخرى، وهذا ما استقر عليه الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض ((لا يجوز اعتماد خبرة جرت خارج مجلس القضاء)) قضية أساس 72 قرار428 تا20/2/2000 ((ليس للمحكمة أن تعتمد خبرة جرت في خصومة أخرى مادامت لم تجر تحت إشرافها)) قضية أساس1778 قرار 1172 تا 9/11/1999.
- شروط صحة الخبرة:
هناك شروط عامة لكل أنواع الخبرة يجب توافرها ليكون التقرير المقدم مبنياً على أسس علمية وقانونية سليمة يمكن الاعتماد عليه كأساس للحكم نذكر أهمها:
- أن يكون الخبير من أصحاب المعرفة والاختصاص بالمجال المطلوب إجراء الخبرة فيه, ومسجلاً بجدول الخبراء المعتمد من وزارة العدل ((الأمور الفنية لا يمكن إثباتها إلا بالخبرة والتي يجب أن تتم من خبير مختص)) نقض أساس 83 قرار 85 تا 16/5/1995.
- قرار إجراء الخبرة يصدر من المحكمة الناظرة بالدعوى إذا رأت ضرورة لذلك, أو بناءً على طلب الخصوم, ويجب أن يرد على واقعة مادية محدده بشكل واضح، وتحدد المحكمة أتعاب الخبراء أيضاً حسب المادة 140 قانون بينات.
- تجري الخبرة بإشراف المحكمة، ولا تأخذ المحكمة بأي خبرة جارية بدعوى أخرى أو خارج مجلس القضاء ((لا يجوز للمحكمة أن تعتمد ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟التي لم تجر بحضور الطرفين والتي لم تشرف عليها)) نقض أساس 261 قرار 143 تا 23/3/1996.
- أن يكون التقرير مستوفياً لشروطه الشكلية والقانونية, ومبنياً على أسس فنية ومهنية سليمة، وبعيداً عن التناقض والغموض, ومستنداً لوقائع الحادث والوثائق المبرزة بالملف حسب الفقرة 1 من المادة 151 قانون بينات، وما استقر عليه الاجتهاد القضائي ((يجب أن تكون الخبرة محددة المعالم محيطة بالنزاع متعلقة به من جميع جوانبه)) نقض أساس 501 قرار 316 تا 19/3/1995.
- على الخبراء التقيد بقرار المحكمة وعدم البحث بالنواحي القانونية لموضوع الدعوى التي هي من اختصاص المحكمة صاحبة الحق بالبت فيها.
وفي حال لم تتحقق الشروط الواجب توافرها بالخبرة اعتُبرَت مخالفة للقانون ومستوجبة الهدر والحكم المبني عليها يستحق النقض، وهذا ما استقر عليه الاجتهاد القضائي بهذا الشأن.
- صلاحية المحكمة في إجراء الخبرة:
يحق للمحكمة أن تقرر الخبرة من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب الخصوم، كما سبق بيانه. عدَّ القانون الخبرة وسيلة للتحقيق تقرر بصدد دعوى مرفوعة، وهذا هو الأصل، إلا أنه يجوز اللجوء إلى الخبرة بصورة مستقلة إذا كان الأمر يتطلب العجلة في تحقيق أمر يستلزم معرفة فنية، عندئذٍ تتم مراجعة قاضي الأمور المستعجلة بدعوى أصلية لإجراء الخبرة، وعندما تقرر المحكمة اللجوء إلى الخبرة بوصفها مبدأ عاماً فإنها تطلب من الخصوم أن يتفقوا على اختيار خبير أو ثلاثة خبراء، وإن لم يتفقوا قامت هي بتسمية الخبراء.
تبقى الاستعانة بالخبرة أمراً جوازياً تقرره المحكمة التي تنظر في موضوع النزاع كلما احتاج الفصل في الدعوى إلى التحقق من بعض المسائل الفنية التي لا يمكن التأكد منها الا بوساطة من كانت له معرفة فنية متخصصة، وعلى المحكمة دراسة الدعوى والوثائق والأدلة المعروضة أمامها قبل تقرير إجراء الخبرة، وذلك لعدم إطالة أمد التقاضي, فإذا رأت المحكمة أن المدعي غير محق بادعائه، أو أن عقد التأمين لا يغطي تاريخ الحادث، أو أن شروط العقد المُنشئة للالتزام غير محققة عندها لا فائدة من إجراء الخبرة ويجب على المحكمة اتخاذ القرار برد الدعوى مباشرةً ((على المحكمة عدم التسرع بإجراء الخبرة قبل التحقق من صحة ادعاءات ودفوع الطرفين)) نقض أساس 217 قرار 122 تا 15/3/1997، إلا أن صلاحية القاضي في اللجوء إلى التحقيق الفني والخبرة ليست مطلقة بل ترتبط بمدى حاجة الدعوى للاستعانة بأهل الاختصاص للوصول لقرار عادل يحسم النزاع.
- حجية الخبرة ومدى تقيد المحكمة بها:
عندما تقرر المحكمة إجراء الخبرة على واقعة مادية معينة متعلقة بالدعوى الناظرة بها، ويصدر تقرير الخبراء، يكون للمحكمة مطلق الصلاحية في اعتماد هذا التقرير في حكمها أو عدم الأخذ به، مع وجوب تعليل قرارها, ومن ثم فالخبرة ليست ملزِمة للمحكمة، ولا تخرج عن كونها مشورة فنية، ولا تشكل بحد ذاتها دليل إثبات كاملاً يُبنى عليه الحكم لأنها من الأمور الموضوعية التي تقيّمها المحكمة وفق أسس وقواعد القانون ((إن تقييم رأي الخبراء يعود لمحكمة الموضوع ولا معقب عليها في ذلك مادامت الخبرة المعتمدة غير مشوبة بأي نقص أو غموض)) نقض أساس 1079 قرار 317 تا 9/3/1998، وفي هذا المجال للمحكمة عدة خيارات في كيفية التعامل مع الخبرة الجارية وهي:
- للمحكمة اعتماد تقرير الخبير كلياً، أو الأخذ ببعض ما جاء فيه من آراء، وتطرح الباقي مع التعليل، أو تأخذ بنتيجة التقرير مع بناء رأيها على أسباب أخرى ((من حق المحكمة الاقتناع بالخبرة الجارية أمامها وطرح ما عداها من أدلة)) نقض أساس 614 قرار 364 تا 14/4/1997.
- للمحكمة ألا تأخذ بتقرير الخبير إذا رأت أن الخبرة مخالفة لوقائع الدعوى والأدلة المطروحة فيها وهنا يجب عليها التعليل حتى لا يكون القرار عرضةً للنقض سنداً للمادة 155 قانون البينات ((رأي الخبير لا يقيد المحكمة، وإذا حكمت المحكمة خلافاً لرأي الخبير وجب عليها بيان الأسباب التي أوجبت إهمال هذا الرأي كله أو بعضه)) وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي أيضاً ((يجب على المحكمة أن تبين الأسس التي دعتها لطرح الخبرة وعدم الأخذ بها)) نقض أساس 1527 قرار 3172 تا 22/11/1993.
- للمحكمة أن تقرر دعوة الخبير ومناقشة تقريره، وتطلب منه استدراك النواقص والأخطاء التي وردت في خبرته سنداً للمادة 154 قانون بينات ((للمحكمة أن تأمر بدعوة الخبير لحضور الجلسة إذا رأت في تقريره نقصاً، أو إذا رأت أن تستوضحه في مسائل معينة ولازمة للفصل في الدعوى)).
- للمحكمة أن تعيد الخبرة مجدداً إذا رأت عدم صلاحيتها أو مخالفتها للقانون، أو عدم كفاية الإيضاحات المقدمة من الخبير سنداً للفقرة 3 من المادة 154 بينات ((ولها إن رأت عدم كفاية الإيضاحات أن تأمر من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم بالقيام بتحقيق جديد أو عمل تكميلي تعهد به إلى الخبير نفسه أو إلى خبير آخر))، وهنا يجوز للمحكمة إعادة الخبرة بأخرى مماثلة لها، أو أعلى منها ـ إن وجدت ضرورة لذلك ـ على ألا يقل عدد الخبراء الجدد عن العدد في الخبرة التي تقرر إعادتها، وأن يكون عدد الخبراء فردياً لترجيح رأي الأغلبية في حال الاختلاف بينهم، بأن تكون الخبرة ثلاثية أو خماسية حسب اجتهاد محكمة النقض ((ليس ما يمنع من إعادة الخبرة من خبير واحد دون ثلاثة خبراء)) نقض أساس 2570 قرار 1765 تا 18/5/1999 ((إن إعادة الخبرة لا تستدعي أن تكون بخبراء يفوق عددهم عدد الخبراء في الخبرة التي تقرر إعادتها، وإنما يجب ألا يقل عدد الخبراء عن العدد في الخبرة التي تقرر إعادتها, فإعادة الخبرة تتم بعدد خبراء الخبرة السابقة، أو بعدد يفوق عدد الخبراء بالخبرة السابقة)) نقض أساس 4273 قرار 3491 تا 29/11/2000, ورغم ذلك تبقى المحكمة غير ملزمة بقبول طلب الإعادة إذا تقدم به أحد الأطراف وكانت الخبرة صحيحة ومقنعة للمحكمة، وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي ((إن المحكمة غير ملزمة بإعادة الخبرة تحقيقاً لطلب أحد الخصوم مادامت مقتنعة بالخبرة وبموافقتها للأصول)) نقض أساس 3262 قرار 362 تا 4/3/1992 ((إعادة الخبرة متروكة لقناعة قاضي الموضوع، وهو غير ملزم بذلك إذا لم تبين أسباب سائغة لإعادتها)) نقض أساس 3212 قرار 1952 تا 9/11/1997.
وبهذا نكون قد أوضحنا النقاط الأساسية المتعلقة بالخبرة، وبقي أن نقول: إن توجه بعض المحاكم لإجراء خبرات على الدعاوى المطروحة أمامها ولاسيما دعاوى حوادث السير، واعتماد ما يقوله الخبراء من دون دراسة وتدقيق كاف من خلال إصدار الأحكام وفق تلك التقارير، حتى وإن كانت مخالفة لوقائع الحادث، ولحدود مسؤولية جهة التأمين المحددة بالعقد، وما جاء بقرار رئاسة مجلس الوزراء بالقرار 1915 لعام 2008.. قد تكون تقارير الخبرة أحياناً مخالفة لما تم إجراؤه من معاينات وقت وقوع الحادث كأن يعطي الطبيب المعين من المحكمة للمتضرر من الحادث نسباً مرتفعة للعجز الوظيفي الناتج عن الحادث تخالف ما جاء بتقرير الطبيب الشرعي الذي عاين المصاب وقت وقوع الحادث، وأحياناً تأتي التقارير الطبية متضمنة أضراراً جسدية لأشخاص رفضوا المعاينة بعد الحادث لأنهم لم يتأذوا من الحادث، أو صدور تقارير خبرة تتعلق بالأضرار المادية اللاحقة بسيارة المدعي، تتضمن مبالغة في أسعار القطع وأجور الإصلاح، أو تتضمن أضراراً ليست ناتجة عن الحادث، ولم تذكر في ضبط الشرطة، واعتماد المحكمة على التقرير من دون التدقيق بصحة ما جاء فيه، وهذا التوجه يجعل من المحكمة غير منصفة بقرارها، ولم تقم بدورها الذي أوجبه القانون في تحقيق العدل وجبر الضرر بين المتخاصمين، ما يضعف ثقة المتقاضين بحيادية المحكمة، ويجعل قرارها مستوجباً النقض.
شركة التأمين العربية – سورية