حرص المشرِّع السوري على انشاء محاكم متخصصة في مجالات متعددة نظراً للتطور الحاصل في العلاقات الاجتماعية والتعاملات التجارية والمصرفية بين الأفراد من جهة، والشركات والمؤسسات من جهة أخرى، وازدياد المنازعات التي قد تنشأ نتيجة ذلك، ما دعت الحاجة لوجود جهات قضائية متخصصه تمتلك الخبرة اللازمة للنظر بهذه النزاعات بمهنية عالية وسرعة في اتخاذ الأحكام، بهدف الحفاظ على استقرار تلك التعاملات، ما يعكس الثقة والطمأنينة لدى كل الأشخاص والشركات على حد سواء.
فقد تم إنشاء محاكم متخصصة بالنزاعات التجارية، وأخرى متخصصة بنزاعات العمال مع رب العمل، وأيضاً أنشأت محاكم مصرفية بالقانون رقم 21 لعام 2014 تختص بالنظر بكل النزاعات التي يكون أحد أطرافها مصرفاً أو مؤسسة مالية تقبل الودائع وتمنح التسهيلات الائتمانية.
وكان آخر هذه التشريعات القانون رقم 5 لعام 2017 القاضي بإنشاء محاكم مدنية بداية واستئناف مختصة بالنظر بدعاوى التأمين والذي جاء فيه:
المادة 1: تحدث في كل محافظة من محافظات الجمهورية العربية السورية محاكم مدنية “استئناف-بداية” تختص بالنظر في قضايا التأمين، وفقاً لأحكام القوانين النافذة، ولقواعد الاختصاص الواردة في قانون أصول المحاكمات، تملأ وظائفها من الملاك العددي لكل محافظة بقرار من مجلس القضاء الأعلى.
المادة 2: تقبل أحكام المحاكم المحدثة وفقاً لأحكام هذا القانون الطعن وفقاً للقواعد المقررة في قانون أصول المحاكمات، وتقبل أحكام محكمة الاستئناف الطعن أمام غرفة أو أكثر لدى محكمة النقض تختص بالنظر في قضايا التأمين.
المادة 3: تحال الدعاوى القائمة بوضعها الراهن إلى المحكمة المختصة المماثلة المحدثة بموجب هذا القانون والتي تدخل في اختصاصها المحلي.
المادة 4: ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية- تم النشر بالجزء الأول من العدد 11 تاريخ 15/3/2017 وأصبح نافذاً.
وسنقوم بالحديث بشيء من التفصيل عن آلية تطبيق هذا القانون والقوانين التي تحكم المنازعات التأمينية الواجب اتباعها من تلك المحاكم، وخاصةً قرار رئاسة مجلس الوزراء رقم 1915 لعام 2008، وأخيراً ما قد يرد عليه من ملاحظات.
أولاً - آلية تطبيق القانون: إن إنشاء هذه المحاكم يتعلق بتغير الاختصاص النوعي للمحكمة الناظرة بالدعوى التأمينية مع بقاء الاختصاص المكاني كما هو، حيث جاء القانون لإنشاء محاكم مدنية بدائية تنظر بالنزاعات التي يكون موضوعها عقد تأمين أو أحد أطرافها شركة تأمين مهما كانت قيمة الدعوى، وتكون قرارات محكمة البداية قابلة للاستئناف أمام الغرفة التأمينية، والتي تقبل أحكامها الطعن أمام محكمة النقض لدى غرفة أيضاً تختص بدعاوى التأمين.
ومن ثم فالمشرع جعل درجات التقاضي للنزاعات التأمينية على مرحلتين، يُضاف إليهما مرحلة النقض على اعتبار أن محكمة النقض هي محكمة قانون وليس موضوع، حيث تنظر فقط بمدى صحة تطبيق القانون وسلامة الإجراءات المتبعة من المحاكم الأخرى.
وحفاظاً على مصالح المتقاضين جاءت المادة 3 من القانون بإحالة الدعاوى التي كانت منظورة قبل صدوره للمحكمة الجديدة بالدرجة ذاتها وبوضعها الراهن، مع ضمان صحة كل الإجراءات التي اتخذتها المحكمة الأخرى من دون الحاجة لإعادتها، ومن ثم تتابع المحكمة التأمينية النظر بالدعوى من النقطة التي وصلت إليها من دون أي تعديل مادامت هذه الاجراءات صحيحة وقانونية، وبموجب ذلك لم يعد للمحكمة القديمة صلاحية نوعية للبت بالنزاع المعروض أمامها، ولا يجوز لها المثابرة بالنظر بالدعوى لدخولها ضمن اختصاص محكمة أخرى.
ثانياً– القوانين التي تحكم النزاعات التأمينية: صدر قانون إحداث المحاكم التأمينية في غياب وجود تشريع خاص بالتأمين في سورية حتى الآن، رغم الحاجة الملحة لإصدار قانون خاص بالتأمين، يحكم وينظم العلاقات والتعاملات، ويضبط المنازعات بنصوص قانونية آمرة في قطاع بحجم قطاع التأمين، وخاصةً مع ازدياد أعمال التأمين في التعاملات التجارية والصناعية، وفي البناء والصحة وكل مجالات الحياة، وقد سبقتنا الدول المجاورة في ذلك منذ عدة سنوات، ففي عام 1999 صدر قانون تنظيم أعمال التأمين رقم 33 في الأردن، والقانون رقم 10 بعام 2005 في العراق، وقانون التأمين الفلسطيني رقم 20 لعام 2005، وقانون الضمان الإلزامي في لبنان وغيرها من الدول العربية التي أدركت بوقت سابق ضرورة تنظيم قطاع التأمين بقانون خاص.
أما في سورية فقد صدرت عدة قرارات ومراسيم تشريعية تتعلق بالتأمين نذكر منها:
- المرسوم التشريعي رقم 68 لعام 2004 المتضمن إحداث هيئة الإشراف على التأمين.
- المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 2005 المتعلق بترخيص شركات التأمين وإعادة التأمين وينظم علاقتها مع الهيئة.
- القرار رقم 127/100 لعام 2007 الصادر عن هيئة الإشراف على التأمين، والمتعلق بنظام الحوكمة المؤسساتية في شركات التأمين.
- القرار 1195 لعام 2008 الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، والمتعلق بالتأمين الإلزامي على المركبات وحدود التعويضات التي تلتزم بها شركات التأمين تجاه الغير.
ومن ثم يبقى عمل المحاكم التأمينية محدداً بالقوانين العامة التي يدخل في موادها نشاط التأمين بكل مجالاته، كالقانون المدني، وقانون الشركات رقم 29 لعام 2011، وقانون السير، وقانون أصول المحاكمات المدنية والجزائية وغيرها، حيث تقوم المحكمة باستخلاص المواد القانونية الواجبة التطبيق على النزاع المعروض أمامها للبت فيه.
ونظراً لكون حوادث السير هي أكثر المطالبات التي ترد لشركات التأمين، والتي تتعلق بعقود التأمين الإلزامي على المركبات، فسنتحدث عن التشريعات المطبقة على الدعاوى الناشئة عن ذلك، وخاصةً القرار رقم 1915 لعام 2008.
ثالثاً– القرار رقم 1915 لعام 2008: أصدر السيد رئيس مجلس الوزراء القرار 1915 بتاريخ 12/5/2008 بناءً على أحكام قانون السير رقم 31 لعام 2004، والمعدل بالمرسوم رقم 11 لعام 2008، وما جاء بالمادة 198 منه والتي نصت (يصدر رئيس مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزيري المالية والعدل بالتنسيق مع رئيس مجلس إدارة هيئة الإشراف على التأمين النظام الخاص بالتأمين الإلزامي وبدلاته وشموليته) ما يعطي هذا القرار صفة التشريع لأنه صادر بناءً على تفويض من المشرع، وبموجب نص قانوني، وهذا ما أكده التعميم رقم 8 تاريخ 11/3/2010 الصادر عن وزارة العدل، والموجه لكل المحاكم بضرورة التقيد بما جاء بالقرار عند الفصل بدعاوى التعويض عن حوادث السير، والالتزام بالحدود المبينة فيه عند تقدير التعويضات التي تُلزم بها شركات التأمين.
إلا أنه رغم تحصين هذا القرار بالكثير من التعاميم والاجتهادات القضائية لإعطائه صفة التشريع الآمر؛ إلا أن أغلب المحاكم مازالت تعتبر هذا القرار غير ملزم لها لأنه لا يعدل أو يلغي أحكام المسؤولية المنصوص عنها بالقوانين، كقانون السير الذي نص بالمادة 183 الفقرة أ (كيفية التعويض ومداه يحددان وفق القواعد الواردة في القانون المدني بصدد العمل غير المشروع) والمادة 184 الفقرة أ (يعد باطلاً كل اتفاق يلغي أو يحدد المسؤولية المدنية)، وتعد هذه النصوص متناقضة مع ما جاء بالمادة 198 السابق ذكرها لأن المشرع أقر وفوض فيها الجهات ذات العلاقة بتحديد بدلات التعويض التأميني وشموليته.
كما جاء بالقانون المدني وبنص المواد 171 و222 أن القاضي هو من يحدد مدى التعويض عن الضرر الذي لحق بالمضرور ما لم يكن التعويض محدداً بنص في القانون.
المادة 171: (يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقاً لأحكام المادتين 222 و223 مراعياً في ذلك الظروف الملابسة ودون أن يتقيد بأي حدف إن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعييناً نهائياً، فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير).
المادة 222: (إذا لم يكن التعويض مقدَّراً في العقد، أو بنص في القانون، فالقاضي هو الذي يقدره. ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة، وما فاته من كسب... إلخ).
ومن ثم تبقى المادة 6 من القرار الوزاري التي نصت على أن حق المتضرر تجاه التأمين محدد بالمبالغ المذكورة بالعقد معطلة وغير فعالة أمام النصوص القانونية المذكورة.
وتبرز الإشكالية في مدى التعويض الواجب إلزام شركة التأمين به بغياب قانون خاص يحدده، حيث أن عقد التأمين الإلزامي مبرم بين طرفين هما شركة التأمين كمسؤول بالمال عن الأضرار التي تسببها المركبة المؤمَّنة للغير، والمؤمَّن له الذي يسدد القسط التأميني لأن هذا العقد لا يلزم إلا أطرافه، تطبيقاً للقاعدة القانونية التي تقول: العقد شريعة المتعاقدين، ومن ثم المتضرر ليس طرفاً بهذا العقد وغير ملزم بحدود الاتفاق الجاري بين أطرافه وهذا ما أكدته المادة 153 من القانون المدني (لا يرتب العقد التزاماً في ذمة الغير، ولكن يجوز أن يكسبه حقاً).
وهذه الإشكالية لا تتعلق بحدود التعويض فقط، بل تتعدى ذلك للكثير من مواد القرار 1915، كعدم صحة إقامة دعوى التعويض بمواجهة جهة التأمين فقط، وضرورة اختصام مالك وسائق المركبة المسببة للحادث حيث نصت الفقرة /ج/ من المادة 13: (لا تصح إقامة الدعوى بمواجهة جهة التأمين فقط، بل لابد من اختصام مالك المركبة ومسبب الضرر للمطالبة بالتعويض الناجم عن الحادث) لأن القانون المدني أعطى المضرور الحق بالمطالبة بالتعويض من المسؤولين المتضامنين عن الضرر اللاحق به مجتمعين أو منفردين، تطبيقاً للقاعدة القانونية التي تقول: المدعي هو من يختار خصومة بالدعوى حيث نصت المادة 285/مدني: (يجوز للدائن مطالبة المدينين المتضامنين بالدين مجتمعين أو منفردين).
ولذلك عندما تقام الدعوى على شركة التأمين فقط، لا تلتزم المحكمة بإدخال المالك والسائق كجهة مدعى عليها متضامنة مع شركة التأمين، وفق ما جاء بالقرار 1915 مستندةً في ذلك لنصوص القانون والاجتهادات القضائية بهذا الشأن، ما يعطل أحكام القرار الوزاري، ويلحق ضرراً بشركة التأمين لأنها أصبحت الجهة الوحيدة الملزمة بتنفيذ ما سيصدر عن المحكمة من قرار بالدعوى المنظورة أمامها.
ونظراً لهذا التخبط والتناقض في الأحكام القضائية، وصدور عدة اجتهادات من محكمة النقض أخذ بعضها بالقرار الوزاري، وقرر بعضها عدم وجود صفة تشريعية لهذا القرار؛ قامت وزارة العدل بتسطير كتاب للهيئة العامة لمحكمة النقض، والتي هي أعلى جهة بالهرم القضائي برقم 2706 تاريخ 7/2/2014، والمتضمن ضرورة توحيد الاجتهاد القضائي بخصوص طريقة تطبيق نسبة المسؤولية على التعويض عن الأضرار المتولِّدة عن حوادث السير، وكيفية توزيع التعويض بين شركة التأمين وسائق ومالك المركبة المسببة للحادث، وبما أن قرارات الهيئة العامة لمحكمة النقض هي بمنزلة النص القانوني وواجبة الاتباع، لأنها تمثل أعلى مرجع قضائي، ولها حجية قانونية؛ قامت تلك الهيئة بإصدار مبدأ واجب الاتباع بقرار رقم 12 متفرقة تاريخ 24/2/2014، قررت به إعمال نسبة المسؤولية عن الحادث على إجمالي التعويض المقدر من المحكمة، فإذا زاد المبلغ الناتج عن سقف مسؤولية التأمين المحددة بالقرار 1915، يحكم بالحد الأعلى على جهة التأمين، والباقي يتحمله المالك والسائق فقط بالتكافل والتضامن بينهما.
ووفقاً لهذا المبدأ فقد حُرمت جهة التأمين من الاستفادة من نسبة المسؤولة التي تقررها المحكمة وحصرها بالمالك والسائق، حيث إذا زاد التعويض عن حدود مسؤولية التأمين حُكم عليها بالحد الأعلى من دون تطبيق نسبة المسؤولية والزيادة يتحملها المالك والسائق دون جهة التأمين.
ونستنتج مما سبق بأنه رغم كل الجهود المبذولة لضبط وتنظيم المنازعات التأمينية أمام القضاء؛ مازلنا بحاجة ماسة وملحة لإصدار قانون خاص يشمل القواعد والإجراءات وحدود التزامات كل الأطراف الواجب تطبيقها بالدعاوى التأمينية.
وتجدر الاشارة إلى أنه تم تعديل حدود التزامات جهة التأمين بالعقد الالزامي بموجب قرار هيئة الإشراف على التأمين رقم 9-17-100 تاريخ 22-2-2017 والذي تضمن زيادة مبالغ التعويض والذي طُبق على العقود الصادرة من تاريخ 1-3-2017 ومن دون أثر رجعي، وذلك تبعاً لتعديل تعرفة التأمين الإلزامي على السيارات السورية بموجب القرار 8-17-100 تاريخ 22-2-2017.
رابعاً– ملاحظات على قانون إنشاء المحاكم التأمينية: رغم أن هذا القانون جاء ليلبي احتياجات قطاع التأمين في مرحلة تعد انطلاقة جديدة لكل مجالات التأمين في سورية، وضرورة وجود محاكم متخصصة إلا أنه يمكن إبداء بعض الملاحظات عليه ونذكر منها:
- عدم وجود قانون خاص بالنزاعات التأمينية.
- ضرورة تدريب وتأهيل كادر قضائي متمكن ومضطلع على تفاصيل العمل التأميني فنياً وإجرائياً والقوانين المتعلقة به قبل تعيين قضاة المحاكم التأمينية، ليكون لديهم الخبرة والدراية بهذا المجال المتخصص.
- جاء القانون بإحداث محاكم مدنية بدائية واستئنافية تنظر بدعاوى التأمين، وتحال إليها الدعاوى من المحاكم الأخرى المماثلة من دون أن يبين مصير الدعاوى التأمينية المقامة أمام محاكم الصلح المدني حسب الاختصاص القيمي للتعويض المطالب به، وهل يبقى الاختصاص النوعي لمحاكم الصلح، أم تحال أيضاً لمحكمة البداية التأمينية المحدثة على غرار ما جاء بقانون إحداث المحاكم المصرفية، حيث لم ينص على كلمة المماثلة، بل جاء بإحالة الدعاوى المصرفية بوضعها الراهن إلى المحكمة المختصة المحدثة وفق قواعد الاختصاص المكاني فقط، إضافة إلى أن قرارات محكمة الاستئناف المصرفية تصدر مبرمة غير قابلة للطعن بالنقض، في حين قرارات محكمة الاستئناف التأمينية قابلة للطعن بالنقض.
- بموجب هذا القانون يبقى للمتضرر من حوادث السير الحق بمتابعة دعوى التعويض أمام القضاء الجزائي الناظر بدعوى الحق العام لوجود جرم جزائي يُعاقب عليه القانون كالإيذاء أو التسبب بالوفاة أو مخالفة قانون السير، ومن ثم هذه الدعاوى لا تحال للمحكمة التأمينية وإن كانت شركة التأمين طرفاً فيها، بل تبقى من اختصاص القضاء الجزائي.
دمشق 6/11/2017 المحامي: أحمد نمير الصواف
مستشار قانوني
شركة التأمين العربية– سورية