استثناءات عقد التأمين الالزامي من القواعد العامة للدعوى المباشرة
حرص المشرِّع المدني على تنظيم العلاقات القانونية وما ينتج عنها من حقوق والتزامات، وبمقتضاها يكون الشخص دائناً أو مديناً تجاه الآخرين، وتم وضع قواعد تنظم العلاقات القانونية من أجل التوفيق بين المصالح المتعارضة، وقد قرر المشرِّع وسائل كثيرة لحماية الحقوق والالتزامات، ومن أهم هذه الوسائل الدعوى القضائية والتي تعد سمةً أساسية من سمات حماية الحقوق في القانون بشكل عام، والقانون المدني بشكل خاص، فمقابل كل حق يقرره القانون هناك دعوى تحميه، وإن استعمال هذه الدعوى مرهون بتوافر شروطها القانونية التي من أهمها وجود علاقة قانونية متنازع عليها بين طرفي الدعوى، ولكن في بعض الأحيان يخرج المشرِّع عن هذا الأصل العام، ويقرر الدعوى للدائن تجاه الغير والذي لا تربطه أي علاقة قانونية سابقة بهذا الدائن سوى أنه يكون في ذمته حق لمدين هذا الدائن، ومن هذه الدعاوى ما يسمى "الدعوى المباشرة" التي قررها المشرِّع في حالات خاصة، أي في العلاقات القانونية غير المباشرة بين الأفراد والتي يمارسها الدائن تجاه مدين مدينه للمطالبة بما ترتب من حق له في ذمة مدينه المباشر، والمتحقق في ذمة مدين المدين والدعوى المباشرة تبدو وثيقة الصلة بتنفيذ الالتزام فهي تعد من الوسائل التي منحها القانون للدائن في سبيل جبر المدين على تنفيذ التزاماته، لكنها ليست وسيلة متاحة لكل دائن، بل إنها تمنح للدائن الذي يوجد بين حقه وحق مدينه تجاه الغير صلةً وارتباطاً وثيقاً، بشرط وجود نص قانوني يجيزها ويحكمها، والواقع إن الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه الدائن عند استعماله الدعوى المباشرة هو الحصول على حقه كاملاً، لذلك فإن الدعوى المباشرة تمنح الدائن الذي أقامها مزايا كثيرة تجعله في مركز متميز عن باقي الدائنين الآخرين، إضافة إلى أنها تمنحه حق الاستئثار بنتائج وثمار تلك الدعوى وحده من دون أن يتعرض لمزاحمة ومنافسة سائر الدائنين الآخرين، حيث لا يدخل الحق في الضمان العام للدائنين، بل يستأثر به الدائن وحده.
وجاء التشريع السوري عند تنظيم عقود التأمين الإلزامي للمركبات، والذي يقصد به التأمين من المسؤولية المدنية تجاه الغير الناجمة عن استعمال المركبة، والذي يشمل الأضرار الجسدية والمادية التي تصيب الغير، ليقرر إعمال التأمين الإلزامي عند تحقق المسؤولية الناتجة عن حادث نجم عن استعمال المركبة المؤمَّن عليها، بأن يطالب المتضرر مالك السيارة (المؤمَّن له) بالتعويض ما يستوجب رجوع المالك على الجهة المؤمَّن لديها لأنها مسؤولة بالمال عن جبر الضرر اللاحق بالغير، وتجمع المؤمَّن له والسائق وجهة التأمين رابطة قانونية مصدرها العقد فهم متضامنون ومتكافلون بالتعويض، وهذا ما نصت عليه المادة /170/ من القانون المدني (إذا تعدد المسؤولون عن عمل ضار كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر...) وكذلك المادة /5/ من قرار رئاسة مجلس الوزراء رقم 1915/2008 (تعد كل من جهة التأمين والمؤمَّن له والسائق مسؤولين بالتضامن والتكافل عن الضرر الذي يلحق بالغير...) ومن ثم ينشأ حق المتضرر بالتعويض بمجرد وقوع الضرر الذي سببه السائق عند استعماله لمركبته سنداً للمادة 164 من القانون المدني السوري والتي نصت: (كل خطأ سبَّب ضرراً للغير يُلزم من ارتكبه بالتعويض) وللمتضرر الحق بالرجوع على مسبِّب الضرر أو المالك أو جهة التأمين، فهو من يختار خصومه، ويبقى للمؤمَّن له الحق بالرجوع على التأمين فيما دفعه للمتضرر، وقد جاء في اجتهاد لمحكمة النقض بالقرار رقم 3597/2004 أنه إذا قام مسبِّب الضرر (المؤمَّن له) بتسديد التعويض للمتضرر وفق عقد التأمين ومن دون إذن المؤسسة فإن له أن يطالبها بما دفعه على ألا يتجاوز ذلك ما قد يستحقه المتضرر.
وكذلك يمكن للمتضرر الرجوع مباشرة على جهة التأمين عن طريق الدعوى المباشرة للمطالبة بالتعويض عن الضرر المستحق له في ذمة المؤمَّن له، وفي حدود المسؤولية التي يحددها العقد وفق ما جاء بالمادة /6/ من القرار 1915 (يعطي عقد التأمين الإلزامي للمتضرر حقاً مباشراً تجاه جهة التأمين...) وقد كانت المادة /190/ من قانون السير تنص على ذلك قبل أن تُلغى بالمرسوم التشريعي رقم /11/ تاريخ 30/1/2008.
وتبقى هنا إشكالية مدى صحة إقامة دعوى المتضرر على جهة التأمين فقط، حيث إن القانون لم يلزم المتضرر إقامة الدعوى على كل المتضامنين، بل يبقى للمدعي حرية اختيار خصومه سنداً للمادة /285/ مدني: (يجوز للدائن مطالبة المدينين المتضامنين بالدين مجتمعين أو منفردين...) في حين نصت الفقرة /ج/ في المادة /13/ من القرار 1915/2008 على أنه (لا تصح إقامة الدعوى بمواجهة جهة التأمين فقط بل لابد من اختصام مالك المركبة ومسبِّب الضرر للمطالبة بالتعويض الناجم عن الحادث) إلا أن المحاكم الناظرة بدعاوى التعويض لا تلزم المدعي إدخال كل المتضامنين بالدعوى، بل تكتفي بالادعاء على جهة التأمين لتحقيق صحة الخصومة وهذه المشكلة لا يمكن حلها إلا بصدور قانون خاص ينظم ويحدد الأسس والقواعد للنزاعات الناشئة عن عقود التأمين بكل أنواعها.
ويمتاز عقد التأمين الالزامي باستثناءات على قواعد الدعوى المباشرة تتمثل بما يلي:
أولاً: تتمتع دعوى المتضرر المباشرة على جهة التأمين في العقد الإلزامي بميزة كبرى تجعل المتضرر يحصل على تعويضه مباشرةً من التأمين وبحدود عقد التأمين، ولا يتحمل بذلك مزاحمة دائني المؤمَّن له الآخرين، ولا يمكن لجهة التأمين التمسك بالدفوع التي يمكن لها إثارتها بمواجهة المؤمَّن له، وينال المتضرر بذلك التعويض المستحق له كاملاً، ولو كان المؤمَّن له في حالة سيئة من الإعسار خروجاً عما نصت عليه المادة /235/ من القانون المدني (1– أموال المدين جميعها ضامنة للوفاء بديونه 2- جميع الدائنين متساوون في هذا الضمان إلا من كان له منهم حق التقدم طبقاً للقانون).
وقد منع المشرِّع جهة التأمين من إمكانية التمسك بمواجهة المتضرر بالدفوع التي كان بإمكانه الاحتجاج بها بمواجهة المؤمَّن له فقد نصت المادة /6/ من القرار 1915/2008 على: (... ولا تسري بحقه الدفوع التي يجوز لجهة التأمين أن تتمسك بها قبل المؤمَّن له على ألا تتجاوز حدود نسبة مسؤولية المركبة المؤمَّن عليها من الأضرار التي سببها الحادث) وكذلك كانت الفقرة /أ/ من المادة /190/ من قانون السير تنص على هذا قبل أن تُلغى بالمرسوم التشريعي رقم /11/ تاريخ 30/1/2008، فالمشرِّع في هذا النص قرر أنه لا يكون للمؤمِّن (شركة التأمين) أن يحتج قبل المتضرر بالدفوع التي كان بإمكانه الاحتجاج بها قبل المؤمَّن له، وعلى الرغم من أن النص جاء عاماً إلا أن الاجتهاد القضائي استقر على ترسيخ هذه القاعدة وتطبيقها بكل الحالات التي تعرض على المحكمة سواءً نشأت هذه الدفوع قبل وقوع الحادث أم بعده، ومن تلك الاجتهادات ما جاء بقرار محكمة النقض رقم 1676 لعام 2007 والذي نص: (المتضرر شخص ثالث عن عقد التأمين وحقه يتولد مباشرة منه، ولا تلزمه أحكامه وليس من حق مؤسسة التأمين أن تثير بوجهه الدفوع التي تملك إثارتها بمواجهة المتعاقد).
ويعد عدم إمكانية جهة التأمين الاحتجاج قبل المتضرر بالدفوع التي كان بإمكانها الاحتجاج بها قبل المؤمَّن له خروجاً عن القواعد العامة في الدعوى المباشرة في المسؤولية المدنية، حيث تقضي تلك القواعد أن يحصل المتضرر من التأمين على التعويض من حق المؤمَّن له في ذمة التأمين، فحق المؤمَّن له في ذمة التأمين ينتقل من يوم وقوع الحادث إلى المتضرر ليستوفي منه التعويض، وينتقل هذا الحق بذاته وتوابعه من فوائد وضمانات ودفوع، ويترتب على هذا الانتقال أن يكون للمؤمّن الحق بالاحتجاج قبل المتضرر بالدفوع التي كان بإمكانه التمسك بها بمواجهة المؤمَّن له إذا نشأت هذه الدفوع قبل وقوع الحادث لا بعده، فيكون للمؤمِّن الاحتجاج قبل المتضرر مثلاً بكل شرط في عقد التأمين من شأنه أن يؤثر في وجود حق المؤمَّن له أو في مداه مادام هذا الشرط قد تم الاتفاق عليه بين المؤمِّن والمؤمَّن له قبل وقوع الحادث، ولكن لا يجوز له التمسك بأي شرط مماثل تم الاتفاق عليه بعد وقوع الحادث، إلا أن المشرِّع منع ذلك على المؤمِّن في عقد التأمين الإلزامي، ولم يعطه الحق بالتمسك بأي شرط ورد بعقد التأمين بمواجهة المتضرر، سواءً نشأ قبل وقوع الحادث أم بعده، ويعد ذلك خروجاً على القواعد العامة في التأمين من المسؤولية المدنية.
ثانياً: أما الميزة الأخرى التي يتمتع بها عقد التأمين الإلزامي فهي تتمثل بالأسباب القانونية التي تقطع التقادم فقد نصت المادة /13/ من قرار رئاسة الوزراء رقم 1915 لعام 2008 على أنه: (تسقط دعوى المتضرر تجاه جهة التأمين بمرور الزمن بعد انقضاء ثلاث سنوات على تاريخ وقوع الحادث إذا لم يُقطع هذا التقادم بالمراجعة الإدارية أو القضائية) وأيضاً كانت المادة /190/ من قانون السير تنص على ذلك قبل أن تُلغى بالمرسوم التشريعي رقم /11/ تاريخ 30/1/2008، ويتبين من هذا النص أن المسؤولية في دعوى المتضرر المباشرة على المؤمِّن في عقد التأمين الإلزامي ناشئة عن القانون، وهذا ما أكده اجتهاد محكمة النقض بالقرار 1450 لعام 1999 والذي جاء فيه: (مسؤولية التأمين عن المصابين سندها القانون وليس عقد التأمين). ولما كان القرار الوزاري قد حدد مدة تقادم دعوى المتضرر بنص خاص، وحدد بدء سريان المدة من تاريخ الحادث، وقرر أن هذه المدة تقطع بالمراجعة الإدارية أو القضائية؛ فقد
خرج عن القواعد العامة لقطع التقادم والتي وردت في المادة 380 من القانون المدني السوري التي نصت: (ينقطع التقادم بالمطالبة القضائية ولو رُفعت الدعوى إلى محكمة غير مختصة، وبالتنبيه وبالحجز وبالطلب الذي يتقدم به الدائن لقبول حقه في التفليس أو في التوزيع وبأي عمل يقوم به الدائن للتمسك بحقه أثناء السير في إحدى الدعاوى). وكذلك الفقرة الأولى من المادة /381/ مدني سوري والتي جاء فيها أنه: (ينقطع التقادم إذا أقر المدين بحق الدائن إقراراً صريحاً أو ضمنياً) ومن ثم عندما قرر أن من أسباب قطع التقادم لدعوى المتضرر في عقد التأمين الإلزامي المراجعة الإدارية، فإن ذلك خروج عن القواعد العامة التي حددها القانون المدني لأسباب قطع التقادم والتي لم يرد بينها أن المراجعة الإدارية تقطع التقادم، ما يجعل هذا السبب ميزة كبيرة يتمتع بها عقد التأمين الإلزامي، ويستفيد منها المتضرر، حيث إن مجرد مراجعته الإدارية لجهة التأمين كافية لقطع مدة التقادم وبدء سريان مدة جديدة منذ تاريخ آخر إجراء إداري.
ويمكن لنا القول: إن المشرِّع أعطى استثناءات مهمة لدعوى المتضرر في التأمين الإلزامي خروجاً عن المبادئ العامة للدعوى المباشرة، وذلك صوناً لحقوق المتضررين من حوادث السير.
أيلول 2017
شركة الـتأمين العربية– سورية