التأمينات الاجتماعية نظام قانوني يكاد الإجماع ينعقد على شرعيته لما يحققه من مزايا لمنتسبيه وللمجتمع. والحديث عن هذا النظام لا يقصد منه الاستدلال به على جواز التأمين التجاري، فهو نظام يقوم على مبدأ الاقتطاع الشهري من مرتب أو أجر العامل أو الموظف لدى الدولة، وذلك بجزء نسبي ضئيل ومحدود. فإذا بلغ العامل أو الموظف سن الشيخوخة وأحيل إلى التقاعد فإنه يستحق راتباً شهرياً أكبر من المبلغ الذي كان يقتطع منه شهرياً خلال مدة عمله ويستمر هذا الراتب التقاعدي مادام حياً، ثم ينتقل إلى أسرته التي كان يعيلها متى تحققت شروط استفادتها وفق القوانين المرعية.
ويجب التفرقة بين كلٍّ من نظام التقاعد وهو خاص بموظفي القطاع العام، ونظام التأمينات الاجتماعية، وهو نظام خاص بالعاملين في القطاع الخاص والذي تقوم فيه المؤسسة باقتطاع جزء من أجر العامل إضافة إلى جزء آخر من رب العمل ، فإذا ما تعرض العامل لإصابة عمل أو عجز عن العمل بسبب الشيخوخة أو لأسباب أخرى فإنه يستحق تعويضاً مناسباً وفق الأنظمة الخاصة بذلك. وعليه فإن النظامين "التأمينات الاجتماعيةوالتأمين والمعاشات" يشتركان في العديد من المبادئ والأسس وإن اختلفتا في شكل النتيجة ( معاش تقاعدي للموظف – وتعويض للعامل ).
وفي كلا النظامين يدفع الموظف أو العامل مبلغاً معيناً وهذا يقابل مبلغ القسط الذي يدفعه المؤمن له في التأمين، وفي كلا النظامين (موظف – عامل) فإن الضمان ليس مجانياً ولا تبرعاً.
وفي نظام التأمينات الاجتماعية يوقع العامل عقداً مع مؤسسة التأمينات الاجتماعية مثل ما يقوم به المؤمن له بعقد التأمين. وكذلك فبمجرد قبول موظف القطاع العام العمل في وظيفة لدى الدولة يتضمن عقده القبول والمعرفة بأنظمة التقاعد. والعامل أو الموظف كلاهما يجهلان مبلغ التعويض في نهاية الخدمة أو المرتب التقاعدي عند بلوغ السن والإحالة إلى التقاعد، أي أن في كلاهما جهالة تفوق ما يعتري عقد التأمين إذا أنه في عقد التأمين يتم تحديد سقف التأمين الذي يمكن أن يستحقه المؤمن له في حال وقوع الخطر أو الحادث.
كذلك فإن كلاً من مؤسسة التأمينات الاجتماعية أو الجهات المالية المسؤولة عن المعاشات التقاعدية للموظفين تحصّل فوائد على المبالغ والأموال والاقتطاعات والاشتراكات الشهرية من خلال إيداع هذه الأموال في المصارف أو استثمارها في بعض المشاريع.
من كل ما تقدم يتبين، وفي كثير مما لم يذكر من أوجه، يتأكد وجود تشابه بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري بشكل خاص وعلى الأخص التأمين على الحياة.
ومع ذلك فقد أقر الفقهاء بشرعية كلٍّ من التأمين الاجتماعي وأنظمة معاشات تقاعد الموظفين. هذا صحيح ولكن ذلك كان لاعتبارات تختلف عن النظرة المتوجسة للتأمين وخاصة التجاري.
إن أنظمة التقاعد في كلٍّ من التأمينات الاجتماعية والتأمين والمعاشات وكذلك ما تقوم به بعض الطوائف لبعض المهن كنقابات ( الأطباء - والمهندسين - والمحامين ) وغير ذلك من أنظمة خاصة بهذا الشأن، سواء أكانت شاملة أم خاصة، وسواء أكانت بموجب اتفاقات أم مفروضة من الدولة، فإن هذا كله ليس إلا عملاً من أعمال التكافل الاجتماعي.
ومسؤولية الأنظمة الحكومية هي تكريس وتطوير هذه الأنظمة التي لا تخالف مقاصد الشريعة الإسلامية. خاصة إذا عرفنا أن قوانين العمل هي السمة التي تتميز بها المجتمعات الحديثة في تحديد مدى تقدمها في الإدراك الاجتماعي بحسب ما تتضمنه قوانين العمل فيها من كفالات وضمانات للعمال والموظفين الحكوميين فيما يخصهم.
من ذلك أنظمة الضمان الصحي ( التأمين الصحي ) بمختلف صورها وبمجانية كاملة أو جزئية .
وذلك بهدف أن تخفف وتلطف من وطأة المخاطر وآثارها في حياة الأفراد ( عاملاً – أو – موظفاً) بعد أن قدم كل منهما عمره في خدمة رب العمل أو الدولة.
فهل من العدالة أن يترك هؤلاء عندما يصلون إلى سن لم يعد بمقدورهم فيها تقديم المزيد بسببها أو بسبب إصابة عمل أو مرض وتترك بالتالي أسرهم .
إن هذه الأنظمة تحقق مصلحة الفرد والمجتمع.
وما يهمنا في هذا البحث هو "هل يجوز قياس التأمين على كلٍّ من أنظمة التقاعد وأنظمة التأمينات الاجتماعية؟"
لقد رأى البعض إمكان قياس التأمين على نظام المعاشات أو أنظمة التأمينات الاجتماعية ولكن مع الفارق.
ففي كل منهما يجري دفع الأقساط وهي عبارة عن (مساهمات – اقتطاعات – اكتتاب ) وكلها تهدف إلى شيء واحد. ففي كلٍّ من التأمين وتلك الأنظمة يجري (الغرر) والجهالة، حتى أن التأمين التجاري أقل (غررا) أو جهالة منها، إلا أن الجهالة لا تفسد هذه الأنظمة لأنها أنظمة تعاون، بينما تفسده في التأمين التجاري. والمساهمات، وإن كانت إلزامية بسبب تحقيق المساواة والعدالة بين جميع العمال وجميع الموظفين، إلا أنها في أصلها تبرعات بل هي أشبه بهبة بعوض، خلافاً للتأمين التجاري الذي هو معاوضة كاملة.وأمور أخرى توسع الهوة بين كلٍّ من أنظمة التقاعد وأنظمة التأمينات الاجتماعية وبين التأمين التجاري، مما يمنع قياس التأمين عليهما.
فإن أضفنا إلى ذلك فرقاً جوهرياً هو القصد في التأمين التجاري الذي هو الربح فهذا يختلف عنه في كلا النظامين الذي هو التعاون .
إن التناقض قائم وجلي لدى الفقهاء فمنهم من حرم التأمين التجاري في ذات الوقت هم ذاتهم أباحوا التأمين التعاوني والتأمينات الاجتماعية ونظام معاشات الموظفين، وذلك للأسباب التالية :
- إن انتفاء المعاوضة واعتبار المساهمة في التأمين التعاوني ( التبادلي) والتأمينات الاجتماعية والتقاعد، هو ظاهري خلافاً لوضوحه في التأمين التجاري ولأنه يهدف إلى الربح .
- إن القول بأنه لا يصح التفريق بينهما غير صحيح، ولا مقام لمن قال بجواز التأمين التعاوني أن يقول بجواز التأمين التجاري، لأن من فرق بينهما في الحكم قد يرجع عن ذلك ويسوي بينهما بالمنع.
- إن تنقية ما يعتري التأمين التعاوني مما يلحق به من شوائب ممكن لاعتبارات خاصة به، أما أن يقال ذلك في التأمين التجاري فهذا يتناقض مع ضرورات اقتصادية واجتماعية وحياتية تمس كافة شرائح المجتمع .