حين طرحت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل دراستها الاكتوارية التقاعد المبكر، وبغض النظر عن النتائج المعلنة سلباً أو إيجاباً وقف البعض مشدوهاً بالكلمة الغربية "آخر زماننا صرنا نسمع عن الاكتوارية تتدخل في ذات ذوات شؤوننا الحياتية الآنية منها والمستقبلية" ولاح في التجاذب من لا يعرف معنى (اكتواريا ) ومعنى كلمة اكتواري وخاصة من الخاصة!
ولا عجب فقد قال شاب إنجليزي بملء الفم: "لا يفهم الخبير الاكتواري إلا خبير اكتواري آخر" مع أن بلاده بريطانيا تحتفل بين سنة وأخرى بصعود مهنة – الاكتواريا – لديها والتي بدأت في عام 1819.
إن ظاهرة الصعوبة في فهم ماهية الخبير الاكتواري وحدود مسؤوليته ليست وقفاً على الأفراد العاديين في هذا البلد أو ذاك، بل إنها تمتد أحياناً إلى مجال التأمين التجاري والضمان الاجتماعي، ومن نافلة القول أن يعد العاملون في التأمين والضمان الاجتماعي (الخبير الاكتواري) نوعاً غريباً من الناس، أو لا يعرفون عن وجوده أصلاً مع أنه يعيش بين ظهرانيهم!!
إن مهنة – الاكتواريا – ليست كينونة ضبابية يصعب فهمها مادامت تتناول التحققات والدراسات التي تستعملها الإدارة ـ أي إدارة ـ لسبر أغوار أعمالها الآنية منها والمستقبلية.
إن التعبير العام للخبير الاكتواري هو الترجمة الحرفية للكلمة الإنجليزية actuary والمشتقة من الكلمة اللاتينية actuarius، وإذا كانت الكلمة لم تغير حروفها بطريقة الترجمة حرفاً بحرف، وأبقت على مبناها وفق طبيعة المهنة.. فكيف نفهم الدافع إلى هذا وكيف نفهم الاحتياج للاكتواري؟
ببساطة متناهية (الخبير الاكتواري) يتعمَّق أكثر وأكثر في علم الرياضيات البحتة، وفي الإحصاء التطبيقي ليعطي الحكم الدقيق في نواحي النشاط الانساني والحيوي المتعدد المعايير، والمحدد المصالح، المتعدد الرؤى، والمحدد الرقم حسابياً ومالياً.
إن الصيغة الأساسية لعمل الاكتواري في المسألة الاحصائية (التطبيقية) الرياضية هي الحاجة إلى تجميع العديد من المعلومات والإحصائيات الدقيقة، وإسقاط النتائج والطرق العملاتية أفقياً وشاقولياً لعلم السكان وعلم تصانيف الحياة معيشياً وبيئياً، وضمن المستطيلات والمربعات الخاصة في مسائل التاريخ والجغرافيا، وتواتر الأسس الاقتصادية في زيادة الأسعار والأخطار، كل هذا وغيره من الروافع والدوافع لتحقيق مكونات البحث العلمي واستنتاج القرار الخاص به.
والاكتواري يمارس عمله مثل الطبيب والمحامي والمهندس ولا يجوز أن يُعطى صفة "الاكتواري" من جمعية أو هيئة، وإنما من شهادته العلمية، ومن كونه حائزاً درجة زميل fellow، أو درجة رفيق associate في العلوم الاكتوارية من المعاهد والكليات العالمية، ومع الأسف ليس في الدول العربية أو دول العالم النامي جامعات أو معاهد متخصصة بهذه البرامج التعليمية وتنظيم الامتحانات العامة على أساسها، وإن وجدت بعض الجمعيات في لبنان أو قبرص إلا أنها لا ترقى إلى رتبة الخبير الاكتواري ذي الشفافية العلمية والمعلوماتية المطلوبة للحصول على درجة زميل أو رفيق من المعاهد أو الكليات العالمية في ادنبره أو كندا وفرنسا وأميركا.
إن الخبير الاكتواري حاجة أساسية ومهمة لتنظيم العمل التأميني التجاري كما الضمان الاجتماعي، فهو لا يقدم الإحصائيات البحثية الخاصة فقط، وإنما يتعامل بكل القضايا والمسائل الفنية والإدارية والمالية، ويعد مسؤولاً مسؤولية مهنية عما يقدمه لشركات التأمين من نصائح وملاحظات في القبول والاختيار، وفي أعمال أنظمة الرقابة والإشراف.
إن تأمينات الحياة هي المجال الأوسع والجذر الأول لبصمات الخبراء الاكتواريين في بحث العمر والجنس لجدول الحياة life table، وفي المعدلات المقابلة لجدول الوفاة mortality table، إضافة إلى حزمة من المعلومات عن معادلات ومؤشرات الحوادث والعجز والاستشفاء، ومن ثم تقدير أو تحديد المصاريف الإدارية إلى جانب سعر الفائدة المرافق للتضخم والنمو، كل هذا وغيره من المعادلات والمعدلات لتقسيم تعريفات تأمينات الحياة بالرقم النسبي المئوي أو الألفي المناسب بغية عدم إرهاق المؤمَّن له بقسط التأمين المتساوي premium level، أضف إلى ذلك الجانب الآخر من لوحة تأمينات الحياة، حيث تتجلى بصمة الخبير الاكتواري في تحديد قيم التصفية والتخفيض، وتحديد أسس القبول الصحي في الفحوص الطبية في تأمينات الحياة ليطمئن كل مؤمِّن على حياته أنه يدفع القسط المتساوي على مدار السنين بكل عدالة، والذي هو قسط الخطر risk premium. كما تظهر أهمية الخبير الاكتواري في تأمينات الحياة في تحليل الفائض وتحديد قيم الأصول ودراسة السوق من أجل الاستثمار والتسويق، ومن ثم في سبيل طرح أنواع جديدة من التأمين يحتاجها الجمهور.
إن القرارات والبيانات التأمينية الفنية منها و(الادارية– المالية) تتطلب خبيراً اكتوارياً مقيماً في شركة التأمين بشكل دائم إذا أمكن على مدار العام، وليس لنصف يوم في العام.
إن شركة تأمين حديثة أو قديمة من دون خبير اكتواري مقيم ينقصها الكثير من أجل تحقيق نتائج إيجابية ومستقرة من خلال التحليل والإدارة في التأمينات العامة وتأمينات الحياة، وصولاً إلى واسطة العقد (الربح) وتقييم الرقم الحقيقي في حساب الاحتياطي الفني، والاحتياطي الحسابي (الناجز) لتأمينات الحياة، والذي من دونه لا يكون هنالك مسمى اسمه تأمينات الحياة، ولمزيد من المعرفة فإن الاحتياطي الحسابي لتأمينات الحياة matchmatical resrve يمثل تلك المبالغ التي تجنيها (شركة التأمين على الحياة) من الأقساط التي تم تحصيلها، وتحتفظ بها في ذمة تلك العقود السارية المفعول كي تتمكن من الوفاء بالالتزامات المترتبة على هذه العقود عندما يحل أجلها.
عرَّف المرسوم 43/2005 الخاص بتنظيم سوق التأمين في سورية ـ الاكتواري ـ في الفصل الأول من المادة /1/ في البند /19/ بأنه "الشخص المرخَّص من هيئة الإشراف على التأمين للقيام بتقديم قيمة عقود التأمين والوثائق الاحتياطيات والحسابات المتعلقة بها"
وفي مجال تنظيم الاحتياطي الحسابي جاء في المادة /17/ من المرسوم 43/2005: "تلتزم الشركة (شركة التأمين) بتكوين الاحتياطات الفنية المقابلة لالتزاماتها تجاه حملة الوثائق المستفيدين وتشمل:
الاحتياطي الحسابي لتأمينات الحياة، ويتم تقديره بمعرفة الاكتواري المعتمد. وفي معرض الاستحقاق المترتِّب على شركات التأمين على الحياة فيما يخص الاكتواري نصت المادة /190/ من المرسوم 43/2005: "على الشركة المجازة لممارسة أعمال التأمين على الحياة أن تعيِّن أو تعتمد اكتوراياً مرخصاً ومعتمداً من الهيئة، وذلك خلال شهرين من تاريخ منحها الترخيص، وتلتزم الشركة بإعلام الهيئة بالمعلومات التفصيلية عنه".
إذا كانت استعانة شركات التأمين بالخبير الاكتواري قد أضحت إلزامية، فلا غرو أن ينم ذلك عن مدى أهمية (الاكتواريا) في ركائز الشفافية المهنية العالية والمتانة والاستقرار لشركات التأمين عامة والتأمين على الحياة خاصة.
إن القرارات والاستراتيجيات التقنية مرتبطة بعمل الاكتواري، ويدخل في التحليل والإدارة لجهة التعريفات وتقييم الاحتياطيات والأقساط السارية واتفاقيات إعادة التأمين مع العنوان الرئيس بتعامل كل القضايا المتعلقة بالتأمين على الحياة، والاستشفاء، وفي الضمان الاجتماعي كالمرض والحوادث والوفاة وعدم القدرة على العمل والتقاعد.
في التأمينات العامة وفي تأمينات الحياة يضطلع الاكتواري بدور رائد في تحديد وقياس قيمة المخاطر والاحتياطي الفني في معدل الملاءة وفي سياسة الاستثمار.. وبالمجمل فإن دور الخبير الاكتواري يرتسم في التجارة والصناعة في الخدمات والإدارة في التسويق والتنظيم في التخطيط والتطوير وغيرها من الأعمال والضمانات التي على رأسها تأمينات الحياة.