تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x
ثقافة تأمينية
تقييم مسألة المصلحة في التأمين

أولاً : تقييم فكرة المصلحة في مجال التأمين من الأضرار :

رأينا أن الفقه يذهب إلى القول بضرورة توافر المصلحة الاقتصادية في عدم تحقق الخطر المؤمن ضده, ولا يرى في توافر المصلحة الأدبية أساساً كافياً لإبرام عقد التأمين, والسبب في ذلك ينطلق من قبول الفقه لمبدأ الصفة التعويضية في هذا النوع من التأمين ولكننا نرى أن نص المادة عندما تحدث عن المصلحة قرر ان كل مصلحة اقتصادية تصلح ان تكون محلاً للتأمين, وهذا التقرير لا ينفِ أن المصلحة الأدبية تصلح هي أيضاً محلاً للتأمين, وبالتالي نرفض تخصيص حكم هذا النص لاستبعاد المصلحة الأدبية, لأن المشرع لو أراد الاقتصار على المصلحة الاقتصادية لوضع صياغة مختلفة توضح مقصده بطريقة قاطعة كأن يقول " لا يكون محلاً للتأمين إلا كل مصلحة اقتصادية مشروعة, ونرى أن المشرع لم ينص على المصلحة الاقتصادية إلا بهدف إضفاء صفة المشروعية على أي عقد تأمين أبرم بهدف حماية مصلحة اقتصادية, وحتى يزيل أي شبهة لتحريم عملية التأمين ولذلك قال إن المصلحة الاقتصادية تصلح أن تكون محلاً للتأمين متى كانت مشروعة, ونرفض الرأي الذي يذهب إلى أن المشرع استلزم دائماً توافر المصلحة الاقتصادية, حيث نرى أن هناك عقوداً لا يمكن أن يتحقق فيها الخشية من تعمد تحقيق المؤمن له للخطر المؤمن منه كذلك لا تتوافر فيه الخشية من المضاربة على وقوعه مما يعني أن المصلحة الاقتصادية تتراجع أمام المصلحة الأدبية, ومن ثم يجب إدخال المصلحة الأدبية كعنصر في التأمين من الأضرار واستبعاد الخشية من المضاربة .

ومن أمثلة ذلك انتقاء فكرة المضاربة في حالة التأمين ضد مسؤولية سائق السيارة لأن المؤمن له يحاول دائماً تجنب وقوع أي حادث حتى لا يصيب نفسه أو الغير بضرر جسماني, بل إن وقوع الحادث يترك دائماً ذكريات أليمة في نفس قائد السيارة, فهو يرغب في عدم حدوث أية إصابة لنفسه أو للغير, وبالتالي تكون له مصلحة مؤكدة في عدم وقوع الضرر, ولا يمكن تصور إقدامه متعمداً على ارتكاب هذا الأمر, وبالتالي فهو يقدم على إبرام عقد التأمين وهو يعلم أنه قد لا يحصل على أي قدر من مبلغ التأمين متى لم يقع منه أي حادث وهو الأمر الذي يتمناه, وهو الأمر الذي يحدث غالباً في معظم عقود التأمين ضد هذا النوع من المسؤولية لأن نسبة حوادث السيارات التي تقع سنوياً بالمقارنة بعدد وثائق التأمين المبرمة ضد مسؤولية السائق تثبت أن المستفيد من مبلغ التأمين عدد قليل بينما لا يحصل الآخرون على أي قدر منه بسبب حرصهم في القيادة وعدم رغبتهم في وقوع أي حادث, ويترتب على ذلك أن المؤمن يحصل لنفسه على جميع الأقساط ويحقق بذلك أرباحاً طائلة, ولا يدفع إلا القليل عند وقوع الحادث من بعض المؤمن لهم .

ونفس هذا القول ينطبق على التأمين ضد مسؤولية الطبيب, حيث تنعدم فرص القول بوجود خشية المضاربة أو تعمد إيقاع الخطر, لأنه ليس من المتصور تعمد الطبيب ارتكاب خطأ أثناء عملية جراحية أو في وصف العلاج الطبي, لأن مثل هذا الخطأ يترتب عليه أضرار جسيمة تصل إلى حد وفاة المريض, وهي مسألة لا يمكن تصور تعمد الطبيب إحداثها, لأن الآلام النفسية التي تصيبه نتيجة تحمله مسؤولية هذا الخطأ, وكذلك التأثير على سمعته المهنية لهي أمور أهم  بكثير من أي أضرار اقتصادية تلحق به, لذلك لا يمكن تصور تعمده المضاربة على وقوع هذا الضرر, وبالتالي فإن الاعتبارات الأدبية تتفوق بكثير على المصلحة الاقتصادية .

كذلك قد يكون للشخص ذكريات متعلقة بعمل أدبي أو منزل يقيم فيه وله ذكريات طفولة جميلة, فتكون له مصلحة أدبية في التأمين على هذه الأشياء أكثر بكثير من مصلحته الاقتصادية, كما لا يمكن تصور إضراره عمداً بالمال المؤمن عليه لأن الضرر الأدبي الذي سيلحق به سيفوق مقدار النفع الاقتصادي الذي يحصل عليه من مبلغ التأمين .

كذلك قد لا يغطي مبلغ التأمين قيمة الشيء المؤمن عليه بالكامل لو هلك لأن الفن التأميني يترك جزءاً من القيمة بدون تغطية تأمينية حتى لا يكون للمؤمن له أية مصلحة في وقوع الضرر, ففي هذه الحالة سيكون من مصلحة المؤمن له عدم وقوع الضرر وبالتالي تنتفي المضاربة في هذه الحالة .

ثانياً : تقييم فكرة المصلحة في مجال التأمين على الأشخاص :

أما عن التأمين على الأشخاص فإننا نؤيد الاتجاه الذي يستلزم ضرورة توافر المصلحة, وهذه المصلحة يفترض توافرها عندما يؤمن المؤمن له على حياته حيث يبدو أن له مصلحة في عدم فقدان حياته, وقد تكون هذه المصلحة اقتصادية كما في تأمين الإصابة والمرض حيث يظهر بوضوح أن للمؤمن له مصلحة اقتصادية وهي حماية قدرته على الكسب والمقدرة على تحمل العلاج, أما في حالة التأمين لحال الحياة فتبرز مصلحتان الأولى معنوية متمثلة في بقائه على قيد الحياة بعد تاريخ معين, والثانية مصلحة اقتصادية تتمثل في حصوله على مبلغ التأمين لو بقي حياً في هذا التاريخ, لأن المؤمن يلتزم في هذا النوع من التأمين بأن يدفع للمؤمن له مبلغ التأمين إذا بقي حياً عند تاريخ معين, أما في حالة التأمين لحال الوفاة والتي يستحق فيها مبلغ التأمين عند وفاة المؤمن له فتظهر المصلحة الاقتصادية عندما يكون المؤمن له هو المؤمن على حياته ويكون المستفيد شخص من الغير, فتتمثل المصلحة الاقتصادية للمؤمن له في أن وفاته تفقده كسباً مالياً كان يرغب في تركه للمستفيد, فيحل محل هذا الكسب الفائت ماسيحصل عليه المستفيد من مبلغ التأمين .

أما في حالة التأمين على حياة الغير فينبغي أن يثبت المؤمن له أو المستفيد أن له مصلحة اقتصادية أو أدبية في استمرار حياة المؤمن على حياته, ولا يحل محل هذه المصلحة اشتراط المشرع الموافقة الكتابية للمؤمن على حياته لأننا نرى أن الهدف من هذه الموافقة هو إعلان المؤمن على حياته موافقته على إبرام عقد خاص به ولن يستفيد منه, وإعلانه أن الهدف من هذا العقد ليس المتاجرة به أو بحياته ولكن تحقيق مصلحة لشخص يهتم به المؤمن على حياته بسبب وجود رابطة أدبية أو اقتصادية بينهما, وهذا يعني أن نص المادة التي تتحدث عن المصلحة الاقتصادية قابل للتطبيق على التأمين على الأشخاص مثلما يقبل التطبيق على التأمين من الأضرار .

وبالتالي فإننا ننتهي إلى ضرورة توافر المصلحة في كل عقود التأمين سواء أكانت من الأضرار أو على الأشخاص, وأن توافر المصلحة الأدبية كافٍ لإبرام عقد التأمين, وأننا نرفض فكرة مبدأ الصفة التعويضية الذي بسببه تأثر الخلاف حول مدى أهمية المصلحة الاقتصادية وهل هي عنصر في العقد أم لا .

ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن غياب عنصر المصلحة ينشئ مضاراً كثيرة للمجتمع, وهناك أمثلة تتمثل في أن عدم توافر المصلحة سواء أكانت أدبية أو اقتصادية قد يترتب عليها إهمال المؤمن له في مفاداة الخطر أو العمل على التخفيف من وطأته عند وقوعه, بل قد يجاوز الأمر ذلك إلى افتعال الحادث استعجالاً لقبض مبلغ التأمين فينقلب التأمين أداة شر, إذ يؤدي الاعتماد عليه دون توافر عنصر المصلحة إلى كثرة الحوادث أو تفاقمها, فغياب المصلحة في التأمين من السرقة قد يدفع إلى عدم الاكتراث بالمحافظة على الأشياء المؤمن عليها, وغيابها في التأمين من الحريق يجعل المؤمن له أقل حرصاً على اتخاذ طرق الوقاية منها, وغيابها في التأمين من حوادث السيارات يؤدي إلى كثرتها, إذ يصبح المؤمن له أكثر تهوراً في القيادة لعدم مبالاته بنتائجها, وغيابها في التأمين من البطالة يضعف اهتمام العامل  بتفادي أسباب التوقف عن العمل, وكذلك يصبح رب العمل أقل اكتراثاً بكثرة حوادث العمل لشعوره بان المؤمن هو الذي سيتحمل نتائجها, وأنه لن ينوء بعبئها, وفي كل هذه الحالات يهزأ المؤمن له بالحادث, ولا يأبه لوقوعه لعلمه بأنه قد أصبح بمنجاة من عواقبه لعد إصابة مصلحته بأية أضرار, وفوق ذلك قد يجاوز المؤمن له نطاق الإهمال إلى العمد, فيمهد لوقوع الحادث استعجالاً لقبض مبلغ التأمين متى وجد أن هذا المبلغ أفضل من مصلحته في بقاء الشيء المؤمن عليه .

وبالتالي فإن غياب المصلحة سواء أكانت أدبية أو مادية يؤدي لكثرة الحوادث سواء عن طريق زيادة درجة إهمال المؤمن له في الحفاظ على الشيء المؤمن عليه أو بتعمّده إتلافه .

ولكن إذا اعتبرنا المصلحة عنصراً في أي عقد من عقود التأمين فيجب أن نوضح دورها وقيمتها في العقد, فنعتقد أن المصلحة يمكن اعتبارها سبب عقد التأمين, والشرط الوحيد اللازم لها هو أن تكون مشروعة سواء أكانت مصلحة أدبية أم اقتصادية, ويجب أن نستبعد فكرة الصفة التعويضية وأن لا نربط بين الصفة التعويضية وفكرة المصلحة, وبالتالي تكون أركان عقد التأمين هي أولاً الرضا, وثانياً المحل الذي يتمثل في الخطر المراد التأمين منه, وثالثاً السبب المستعمل في كل مصلحة مشروعة في إبرام عقد التأمين سواء أكانت مصلحة أدبية أو اقتصادية, وهي تتحقق عندما يكون للمؤمن له مصحة مشروعة في عدم تحقق الخطر, وهو ما عبر عنه البعض بحق قوله " إن النظر إلى عقد التأمين من خلال المفهوم العادي والمألوف لعقود المعاوضة من شأنه أن ينزل الحماية من آثار الخطر المؤمن منه ــ أو ما يعرف بالمصلحة ــ منزلة الباعث الدافع إلى التأمين بالنسبة للمؤمن له, أو ما يعرف بسبب العقد أو الغرض الشخصي غير المباشر, وإن المصلحة المراد حمايتها بالتأمين تمثل سبب التزام المؤمن له أو غرضه الموضوعي المباشر, كما تمثل في الوقت ذاته سبب العقد أو غرضه الشخصي غير المباشر, على نحو يتحد معه السببان أو الغرضان في مجال التأمين , وهذا ما يفسر تركيز الفقه على دراسة المصلحة في التأمين, وتغليب دراستها على دراسة سبب الالتزام وسبب العقد فيه, وأن رقابة مصلحة المؤمن له في التأمين هي الأداة الوحيدة لضمان مشروعية عقد التأمين .