لا يمكن لمتابعي التطورات المتسارعة في الجمهورية العربية السورية إلا التأكد من أن انتصارات الجيش العربي السوري فتحت ومهدت للعبور لمرحلة إعادة الإعمار، ومنها إلى مرحلة النهوض الاقتصادي مجدداً. فاختلاف الفكر الاقتصادي والإداري في الجمهورية العربية السورية أضحى واقعاً، فمن منا لم يتعلم دروساً في الأزمة؟ فكيف بالمستثمرين ورجال الأعمال والمديرين الذين استطاعوا عبور السنوات العجاف بأقل الخسائر الممكنة إن وجدت الخسارة أصلاً.
من قال: إن الاقتصاد والأعمال تتحرك فقط على عزف الموسيقا؟ ومن قال بأن الأعمال تنتعش في وقت الرخاء الاقتصادي؟ فلكل قاعدة عكسها، ولكل قاعدة استثناء، نعم إن قطاع التأمين في الجمهورية العربية السورية استثناء بكل معنى الكلمة، فالدروس والعبر المستفادة والمستمدة من الظروف التي حصلت كانت كبيرة كفاية لتختلف معها طرق التفكير بالإدارة، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى طبيعة عمل شركات التأمين وإعادة التأمين، وحتى شركات إدارة النفقات الطبية.
فالركيزة الرئيسة في عمل مكونات قطاع التأمين هي تحمل الخطر عن باقي مكونات القطاعات الاقتصادية والخدمية والإدارية، بغض النظر عن طبيعة نشاطها والغاية (ربحية أو غير ربحية)، فاليوم يجب مكافأة قطاع التأمين لاستمراره في أعماله، رغم وجوده في عين العاصفة، فكم من معيد تأمين انكفأ عن العمل مع الشركات السورية، وكم من بريد إلكتروني أشار إلى رفض التعامل مع شركات التأمين السورية بذريعة العقوبات الغاشمة المفروضة.
تتطلب علوم الإدارة التعامل الدائم مع النتائج، فاليوم لا يمكن لعاصفة أن تمضي من دون أن تترك أثراً خلفها، فيمكن لمتابعي لسوق التأمين السورية أن يلحظوا آثار تقلبات سعر الصرف على أعمال هذه الشركات وانخفاض القدرات الاكتتابية نتيجة لانكفاء المعيدين عن السوق السورية، كما يمكن ملاحظة الأثر على كل أصحاب المصالح المتعاملين مع شركات التأمين، فإنتاجية وكلاء ووسطاء التأمين انخفضت لدرجة اقتربت في بعض الأحيان من الجفاف.
فانخفاض الأقساط ما هو إلا دليل على حصول هذا الأثر الواجب التعامل معه، وتأثر أصحاب المصالح سلباً ما هو إلا دليل إضافي على وجود هذا الأثر، لنكن متفائلين قليلاً، ودعوني أشِر إلى أن الأثر قد يكون إيجابياً، فتراكم المعرفة والخبرات لدى العاملين في قطاع التأمين في الجمهورية العربية السورية بحد ذاته سيحمل تأثيراً مهماً في الأيام المقبلة، ليس فقط على قطاع التأمين، بل على باقي القطاعات، لكون هؤلاء أضحوا حاملين وناقلين للمعرفة والخبرات.
كما أن مغادرة بعض العاملين في قطاع التأمين منحت الفرصة لغيرهم بأخذ المبادرة، ألا يمكن لنا أن نصنف هذا الحدث ضمن فئة الأثر الايجابي؟ برأيي الشخصي يجب تصنيفه ضمن الأثر الايجابي لو كانت نتائج المبادرة إيجابية، ولم تصطدم بمعوقات داخلية خاصة بكل شركة. فما الحل للتعامل مع الآثار الناجمة عن الأزمة لو افترضنا استمرارية انكفاء معيدي التأمين الرئيسين عن السوق السورية، والانطلاق بمشاريع ضخمة تتطلب سعات اكتتابية تتناسب مع حجم هذه المشاريع.
إن مرحلة إعادة الإعمار ستشتمل على مشاريع ضخمة من ناحية الحجم والتكاليف والأهمية. كما أن الأموال الباحثة عن الاستثمار متعطشة للسوق السوري، وخاصة أموال رجال الأعمال السوريين التي ستعود عاجلاً أم آجلاً نتيجة للتطورات الاقتصادية الحاصلة، وخاصة في دول الجوار التي استقبلت أموال رجال الأعمال والصناعيين السوريين، واستفادت منها لسنوات، ولكنها اليوم عرضة لمشكلات اقتصادية كبيرة باعتراف القائمين على النظم الاقتصادية في هذه الدول.
استبقت مكونات قطاع التأمين السورية الأحداث، وبدأت بالتعاون بينها لإطلاق مشروع مجمعات تأمين تقوم مقام عمل المعيدين من دون إهمال تقاسم الأخطار الاكتتابية الخاصة والكبيرة التي انكفأ عنها المعيدون، فالتعاون على توزيع الخطر هو من صلب عمل شركات التأمين، والتعاون في وقت الأزمات هو من أهم مقومات البقاء لكن ما الاستراتيجية المقبلة لشركات التأمين السورية لو افترضنا عدم حصول تغير بموقف شركات الإعادة من السوق السورية.
تعد استراتيجية التعاون من أفضل الاستراتيجيات لإدارة الآثار الناجمة عن الأزمات، لكن اليوم المطلوب من شركات التأمين أكثر من التعاون ومن ثم سنطرح باختصار مجموعة من المقترحات التي قد تكون قابلة للتطبيق في سوق التأمين السورية، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
* تأسيس شركات استراتيجية مع شركات التأمين في الدول الصديقة.
* تشجيع رجال الأعمال السوريين على تأسيس شركات إعادة تأمين محلية.
* تجهيز البيئة الملائمة لاندماج شركات التأمين السورية أو للاستحواذ على شركات أخرى.
* منح العملية التسويقية لمكونات قطاع التأمين بعداً آخر من خلال تفعيل الدور الاجتماعي لشركات التأمين، وبناء شراكة حقيقية مع أفراد المجتمع.
* بناء الشراكات الفعالة مع الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات ومراكز التدريب.
* .........
من الضروري الإشارة إلى أن موضوع الاستحواذ والاندماج لن يكون ـ على الأقل في الفترة المقبلة ـ من أولويات شركات التأمين السورية، وذلك يعود لعدة أسباب منها:
* بيئة العمل وعدم جهوزيتها لهذا السيناريو.
* عدم وجود تجربة سابقة في السوق السورية يمكن الاقتداء بها.
* عدم الاستقرار النهائي في تقلبات أسعار الصرف ما يؤثر في تقييم الشركات.
* .......
اليوم أود أن أخالف العالم الاقتصادي الانكليزي غريشام صاحب القانون الاقتصادي النقدي المشهور "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق" وهذا حال الأسواق، وخاصة في الأزمات الاقتصادية بالقول: عذراً غريشام العملة الجيدة باقية في أسواقنا، فالنقد الجيد اليوم هو استمرارية أعمال قطاع التأمين رغم الأزمة والحفاظ على حقوق المؤمَّن لهم والمساهمين وتزايدها، النقد الجيد اليوم هو الموظفون الأكفياء، النقد الجيد اليوم هو الخبرة الكبيرة في إدارة الأزمة التي مرت على الشركات، النقد الجيد اليوم هو السمعة الحسنة لشركات التأمين وعلاقتها الجديرة بالاحترام مع عملائها.