كثير من التنظير.. قليل من الفعل، والنتيجة:
لا تأمين زراعيا في سورية حتى اليوم.. !
ليس مطلوبا إعادة اختراع العجلة بل الاستئناس بالتجارب المشابهة
أحمد العمار*
تمثل نسبة الأراضي الصالحة للزراعة في سورية 32% من إجمالي مساحتها، فيما تملك 1،1 مليون رأس من الأبقار، و18،2 مليون رأس من الأغنام، إضافة لقطعان كثيرة من الماعز وغيرها، وأكثر من عشرة محاصيل يمكن عدها إستراتيجية أو شبه إستراتيجية، وللحفاظ على القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، ولتفادي الوقوع في عديد المشكلات، لابد من اللجوء للحل الأنسب، الذي يقضي بالتأمين على المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، وهو ما لم يتحقق حتى الساعة، بالرغم من كثرة النقاش والتنظير وعلى المستويات المختلفة، فيما يستمر ضياع موارد المزارعين والمربين، ويستمر معه نزف موارد وفرص فائتة على الاقتصاد الوطني.. !
ليس مطلوبا اختراع العجلة..
يحاول البعض الإسهاب في سرد الصعوبات، التي قد تعترض التأمين الزراعي واضعا العصي في العجلات، دون أن يقدم حلولا وبدائل، فما الحل إذن، ومتى نخرج من هذا الوضع الـ(ستاتيكو)؟!
التأمين كعلم وممارسة حول العالم ليس جديدا، وبالتالي غطى كل الفروع والمنتجات التأمينية، والفرع الزراعي أحدها، لكنه لم يواكب لدينا الفروع الأخرى، فمنذ طبق لأول مرة قبل عدة عقود في السودان، راح الكثير من الدول العربية يستفيد ويعمل على تطبيق هذه التجربة، التي بدأت عندما قامت شركة شيكان السودانية بإدخال التأمين الزراعي إلى البلاد، عبر تجربة وادي شعير، حيث غطت محصول القطن بمساحة22,000 فدان، وكان مبلغ التأمين الإجمالي للوثائق الصادرة 3,919 ملايين دولار، كما بلغ حجم التعويضات المدفوعة 32,000دولار.
بات ملحا..
ثمة خسائر هائلة تكبدها الاقتصاد الوطني جراء الأزمة، التي عصفت بمدخلات ومخرجات هذا القطاع، الذي يعد الأكثر تأثيرا في حياة السوريين، حيث يعمل فيه نحو 40 بالمئة منهم، وسبق أن ذكر تقرير صدر عن منظمة الزراعة والأغذية العالمية (فاو) أن التكلفة الإجمالية للأضرار والخسائر في قطاع الزراعة في سورية، خلال الفترة 2011-2016 ، بلغت ما لا يقل عن 16 مليار دولار.
كما أن للتأمين الزراعي دورا محوريا في تحقيق الأمن الغذائي، على أساس إسهامه الفاعل في تحقيق الاستقرار لقطاع الزراعة، الذي يمثل أساس وجود الأمن الغذائي، ما يعزز دوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأكثر من أي قطاع اقتصادي آخر، لا بل يفوق بقية القطاعات بسبب قدرته على النمو بأقل قدر من الحاجة إلى المستوردات، وفي الوقت ذاته حاجة الدول الأخرى لمنتجاته.
حديث موسمي..!
جرت العادة أن يتجدد الحديث عن التأمين الزراعي لدينا، كلما حلت كارثة طبيعية مسببة أضرارا بالغة في أحد المحاصيل الزراعية، حينها نعتقد أن تطبيقه بات قاب قوسين أو أدنى، حيث يلقى اهتماما واسعا من الجهات الحكومية والخاصة، ثم يعود للسكون من جديد حتى حين، وحاليا تجدد هذا الحديث وسط أخبار متفائلة عن موسم القمح الجاري، وفي ظل انتشار مخاوف من نشوب حرائق متكررة في غير منطقة، دون أن يترافق ذلك كله بإجراءات عملية على الأرض.. !
أهم مخاطر هذا التأمين.
يوفر التأمين الزراعي الحماية الكافية لأموال المزارع ويحافظ على مستواه المعيشي، والمزارع الذي لا يملك تأمينا على محصوله يكون أكثر عرضة لانخفاض الدخل إذا تضرر المحصول، وبالتالي فإن تأمين المحصول، يعني تأمينا لمستوى الدخل، ويقصد بالتأمين على الثروة الحيوانية حماية المواشي التي يمتلكها المربي من مجموعة من الأخطار التي من الممكن أن تتعرض لها، وعادة تقدر قيمة التعويض حسب أسعار الماشية.
ويساعد التأمين على استقرار وتأمين حاجات المزارع من خلال تغطية محاصيله وممتلكاته ضد الجوائح الطبيعية، ورفع الإنتاجية من خلال إدخال التقنية الحديثة التي يتقبلها المزارع دون خوف من المخاطر، طالما هناك جهة أخرى ستشاركه هذه المخاطر، ويعد التأمين من العناصر المكملة لأي اقتصاد قوي، لأنه يقوم على مبدأ التعويض عند حدوث الخطر. ومن أهم الأخطار التي يغطيها التأمين على المحاصيل الزراعية: الأمراض والآفات الزراعية، الأحوال الجوية غير المعتادة، شح الأمطار للقطاع المطري، الغرق بفعل الأمطار للقطاع المروي وضمانات البيوت البلاستيكية، كما يغطي التأمين الثروة الحيوانية النفوق والأمراض والحوادث، التسمم، السرقة، الإجهاض والنقل والتسويق.
دور بارز..
يعد التأمين من أهم قطاعات الخدمات المالية في العالم من خلال استخدام الأموال الضخمة للأقساط المدفوعة في دعم النشاط الاقتصادي وتمويل الاستثمارات، وللتأمين دور اقتصادي مهم في الأزمات والكوارث العالمية، فقد غطى عام 2017 حوالى 144 مليار دولار من 337 مليارا للخسائر الإجمالية الناتجة عن الكوارث الطبيعية والأزمات العالمية. ووصل حجم الأموال المتاحة للاستثمار لدى شركات التأمين في العقد الحالي إلى 32 تريليون دولار، ما يعادل تقريباً 30 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
متى نطلق الصافرة.. ؟!
لجان كثيرة تشكلت، ودراسات ورؤى كثيرة وضعت، بيد أن شيئا عمليا لم يتحقق حتى اليوم، ويرى خبراء في التأمين والإنتاج الزراعي، أنه لا يكفي أن تستمر الجهات المعنية بقطاع التأمين بطرح المشكلة دون أخذ زمام المبادرة، حتى وأن كانت على نطاق محدود، إذ ليس شرطا أن ينطلق هذا التأمين من قائمة عريضة وواسعة من المنتجات، فقد يبدأ من مخاطر محددة، وعلى محاصيل قليلة واحد أو اثنين، أو محصول خاص بكل منطقة كالزيتون في الشمال، والحبوب في الجزيرة والجنوب، والحمضيات في الساحل، وهكذا..المهم أن تنطلق التجربة، بما يشجع الأطراف المتخوفة من مخاطر التأمين الزراعي.
غير مرغوب به.. !
مضى أكثر من 12 عاما على افتتاح السوق التأمينية المحلية أمام الشركات الخاصة، إلا أننا ما زلنا أمام عديد العقبات التي تحول دون استفادة المزارعين من التغطية التأمينية أسوة بغيرهم من المستثمرين في القطاعات الأخرى، ويعتقد بعض القائمين على قطاع التأمين، أن الفرع الزراعي لا يمكن أن ينجح ما لم تتعاون عديد الجهات العامة والخاصة في تحمل مخاطره، التي تعد عالية ومكلفة جدا، لذا يرون أنه يجب أن تتعاون جهات ووزارات مثل.. الزراعة والمالية وغرف الزراعة وشركات التأمين واتحاد الفلاحين، لأن الشركات لا تستطيع تحمل المخاطر لوحدها أسوة تجارب الدول الأخرى كالمغرب، حيث تكبدت شركات التأمين هناك خسائر هائلة أدت لإفلاس بعضها. كما أن شركات إعادة التأمين لا تبدي حماسا تجاه أعمال الإعادة على المنتجات الزراعية، فضلا عن ضعف إقبال المزارعين على التأمين على مزارعهم لأسباب كثيرة.
رؤى ومقترحات
يرى الخبير الزراعي المهندس عبد الرحمن قرنفلة أن تطبيق التأمين الزراعي بات ضرورة حتمية، وذلك لشراء مخاطر تقلب الأسعار والإصابات والأمراض وحالات النفوق في القطيع، مشيرا إلى أن سورية عرفت قبل عقود تجربة الضمان الشبيهة جدا بالتأمين، حيث يحضر الضامن إلى الحقل لمعاينة الثمار، ومن ثم الاتفاق على نسبة من المبيعات أو شراء كامل المحصول.
ولا تملك شركات التأمين لدينا، وفقا لقرنفلة، الخبرات الفنية اللازمة لممارسة مثل هذا التأمين، لذا من الضروري تدريب كوادر وخبرات في الإنتاج الزراعي، وتشكيل صناديق للتعويض على المتضررين، أسوة بصندوق التأمين على الماشية المأخوذ من التجربة المصرية، والذي توقف منذ سنوات.. !
وخرجت دراسة حول التأمين الزراعي في سورية: فرص ضائعة وخسائر متتالية
أعدها الباحث الدكتور رافد محمد بجملة من المقترحات تركزت حول ضرورة قيام المؤسسة العامة السورية للتأمين بتسويق وثيقة للتأمين الزراعي، بصفتها ذراع الحكومة في قطاع التأمين، والبدء بتأمين محاصيل استراتيجية كبيرة (القمح، القطن، التبغ…) نظراً لأهميتها، ولامتلاك الحكومة سيطرة جيدة على تسعيرها وتسويقها، إضافة لإمكانية البدء في تأمين البندورة في الصالات البلاستيكية، نظراً لسهولة حصرها وتموضعها المكثف في منطقة جغرافية واحدة، ويطبق الأمر نفسه بالنسبة لمحصول البطاطا الربيعية والخريفية، وكذلك البدء بتأمين الثروة الحيوانية، من خلال تأمين الأبقار بسبب توافر إحصائيات جيدة عنها لدى وزارة الزراعة، والبدء فوراً بحصر أعداد بقية الثروة الحيوانية، تمهيداً لتأمينها بأسرع وقت، وكذلك تأمين الدواجن التي من السهل حصر أعدادها ومراقبتها، وتأمين تربية النحل.
وتضمنت المقترحات التدرج في شمول التأمين للمخاطر (كما في حال المحاصيل) لحين توافر الخبرة الإدارية الكافية لشمول الأخطار والمحاصيل كافة (المفترض في عدة سنوات فقط)، بحيث نبدأ بتغطية مخاطر الجفاف، البَرَد، الصقيع، الرياح القوية والعواصف، الحريق، التلف نتيجة آفات زراعية، والاعتماد على طريقة مؤشرات الطقس، في حال تأمين الجفاف والصقيع والرياح، بعد التأكد من إمكانية محطات الرصد الجوي، في مراقبة وقياس شدة الظواهر الجوية، وكذلك الانتشار المناسب لهذه المحطات، بحيث تقوم الحكومة بضمان وتمويل هذا الانتشار والتقنيات اللازمة لذلك.
واقترح الباحث أيضاً، الاستفادة من انتشار فروع المصرف الزراعي التعاوني على المناطق السورية كافة، وبشكل قريب من المزارع، في تحصيل الأقساط وسداد التعويضات، ومن انتشار الوحدات الإرشادية الزراعية في مختلف مناطق الريف، وذلك في توعية المزارع بأهمية التأمين، وتخفيف سوء الاستخدام له، وكذلك في معاينة الأضرار إن لزم الأمر.
إضافة إلى إلزامية التأمين الزراعي، وفق آليات ضبط لذلك، ومن تلك الآليات ربط التمويل المصرفي بالتأمين، والاستئناس بأسعار التأمين الزراعي المعتمدة في دول الجوار والدول ذات المحاصيل والمناخ الأقرب إلى سورية، ومراجعة هذه الأسعار بالاعتماد على المعطيات (البيانات) التاريخية والواقعية لتعديل هذه الأسعار.
كما تضمنت المقترحات الاستفادة من وجود شركة الاتحاد العربي لإعادة التأمين (شركة الإعادة الوحيدة في سورية) في عقد اتفاقيات إعادة التأمين الزراعي، إضافة إلى محاولة إجراء إعادة تأمين خارجية تتضمن احتمال تجاوز الخسائر لحد كبير جداً، بهدف تخفيف العبء في هذه الحالة عن الاقتصاد الوطني، وإسهام الحكومة بنسبة من أقساط التأمين، يتم احتسابها بما يتناسب مع موارد الخزينة، ومع الإنفاق السنوي على صندوقي دعم الإنتاج الزراعي وتخفيف الكوارث الطبيعية، اللذين يمكن إعادة النظر في مهامهما بعد انطلاق التأمين الزراعي، وضرورة إجراء حوار مكثف وواسع مع المزارعين ومربي الحيوانات في مختلف المناطق الريفية، بهدف التعرف عن قرب على المخاطر التي تواجههم، ومدى استعدادهم المادي والنفسي لقبول التأمين الزراعي، وكذلك ضرورة العمل على بناء الثقة لديهم بالتأمين وإدارته، والعمل في مرحلة لاحقة على إلزامية التأمين على حياة المزارع وصحته والحوادث الشخصية له، لأنه أساس العمل الزراعي.
يبقى أن..
وتتفاوت الأخطار التي قد يتعرض لها القطاع الزراعي، فهناك أخطار نادرة الحدوث في سورية كالزلازل والبراكين وموجات المد البحري، وأخرى تنتمي لعوامل طبيعية مائية وجوية مثل الجفاف والعواصف وموجات الحرارة والصقيع، كما ان هناك أخطارا بيولوجية مثل انتشار الاوبئة والامراض المعدية، فضلا عن أخطار من صنع الانسان كالحرائق والتصحر والتلوث البيئي وغيرها..
* إعلامي اقتصادي