تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x
ثقافة تأمينية
اختلال التوازن العقدي بين التزامات طرفي التأمين

من الأسس التي يقوم عليها عقد التأمين أنه عقد ملزم للجانبين حيث يلتزم المؤمَّن له بسداد القسط أو أية دفعة مالية أخرى , بينما يلتزم المؤمِّن بأن يؤدي للمؤمن له أو المستفيد  مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر متى وقع الحادث أو تحقق الخطر  المؤمَّن منه .
ورغم وضوح هذا النص وما يحتويه من مقابلة الأقساط بمبلغ التأمين يقرر الفقه أن عقد التأمين من عقود المعاوضات لأن كل طرف فيه يأخذ مقابلاً لما يعطى , ويرى أن التبادل في هذه العلاقة يتمثل في أن المؤمن له يدفع القسط في مقابل تحمل المؤمِّن تبعة الخطر وتعهده بدفع مبلغ التأمين في حال تحقق الخطر وبالتالي فإن وجهة نظر هذا الفقه هي أن ما هو مقابل الأقساط ليس مبلغ التأمين ــ والذي قد يحصل أو لا يحصل عليه المؤمن له تبعاً لوقوع أو عدم وقوع الكارثة ــ ولكنه الأمان الذي يحصل عليه المؤمن له  دائماً .
وترتيباً على ذلك يذهب الفقه إلى أن عقد التأمين يظل دائماً من العقود الملزمة للجانبين حتى ولو لم يقم المؤمِّن بتنفيذ التزامه بتغطية الكارثة بسبب عدم وقوعها , ومن ثم لا يصح القول في هذه الحالة بأن عقد التأمين ملزم لجانب واحد فقط هو المؤمن له حيث يلتزم بدفع القسط أما المؤمِّن فهو لم يلتزم بشيء, وحتى لو التزم بتصفية الكارثة حين تقع فإن التزامه لم يكن ناشئاً وقت إبرام العقد بل نشأ كنتيجة لتحقق الكارثة، فتنفيذ الالتزام لا نشوئه هو الذي يتوقف على تحقق الكارثة وهذه هي خاصية العقود الاحتمالية, لأن ما  يميز هذه العقود هو أن تنفيذ التزام أحد الطرفين، أو حتى كليهما, يكون  معلقاً على حادثة غير محققة الوقوع أو غير معلوم ميعاد وقوعها, لأن الصفة الاحتمالية للعقد لا تنفي الصفة التبادلية, والتزام المؤمِّن بضمان الكارثة إنما هو التزام ناشئ عن العقد ومنذ إبرامه, ولا يغير من ذلك أنه التزام احتمالي لا يوضع موضع التنفيذ إلا بتحقق الكارثة لأن العنصر المميز لجميع العقود الاحتمالية هو كونها معلقة على حادث غير محقق الوقوع وأن صفة الاحتمال لا تمنع أن يكون العقد عقداً تبادلياً مادام هناك التزاماً من كلا الجانبين وارتباطاً و" بين الالتزامين المتقابلين , ويترتب على ذلك أن يعتبر القسط ثمناً للخطر وليس مقابلاً لمبلغ التأمين .
وبما أن التزام المؤمِّن يعتبر التزاماً مستمراً بطبيعته فلا يستطيع أن يقوم بتنفيذه في مدة أقل من المدة المتفق عليها, فالتزام المؤمِّن بمنح المؤمن له الأمان والطمأنينة اللذين يستمران طيلة مدة التأمين فينفذه في كل لحظة من لحظاتها, ولذلك فإن لكل لحظة حظها من الضمان.
 ونظراً لأن عقد التأمين من العقود المستمرة فلا يكون لفسخه أثر رجعي, وبالتالي لا يستطيع المؤمن له استرداد ما أداه من أقساط لأنها كانت مقابل تحمل المؤمِّن لتبعة الخطر خلال هذه المدة, كما أنه في حال استحالة تنفيذ التزام أحد أطراف العقد بقوة قاهرة أو بحادث فجائي ـ  كاهتلاك الشيء المؤمن عليه من السرقة بفعل الحريق ـ فإن عقد التأمين ينقضي بقوة القانون وتسقط التزامات أطرافه من وقت الاستحالة فقط, ذلك أنه في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى التزام أحد أطرافه بسبب استحالة التنفيذ انقضت معه الالتزامات المقابلة وينفسخ العقد من تلقاء نفسه, وعلى ذلك فإن التزام المؤمِّن بتحمل تبعة الخطر والتزام المؤمن له بدفع القسط يسقطان من لحظة انفساخ العقد .
وهذا التحليل لعقد التأمين لا يصدق على كل أنواع التأمين فمعاوضة التأمين على الحياة لا تكون إلا مبادلة بين القسط ومبلغ التأمين ولا تدخل فكرة الضرر في هذه المبادلة لأن هذا التأمين لا يقوم على فكرة التعويض عن خسارة تلحق بالإنسان, لأن حياته لا يمكن أن تقدر بالمال.
والسبب في قول الفقه إن المعاوضة في التأمين على الأشخاص تختلف عن المعاوضة في التأمين من الأضرار هو أن مفهوم الصفة التعويضية اقتصر على عدم استحقاق المؤمن له من مبلغ التأمين المتفق عليه أكثر من ذلك بكثير, حيث تنص على أن " لا يلتزم المؤمِّن في تعويض المؤمن له إلا عن الضرر الناتج من وقوع الخطر المؤمن منه بشرط ألا يتجاوز ذلك قيمة التأمين " وبالتالي يظهر لنا أن هناك توازناً عقدياً يختل عند دفع مبلغ يقابل ما لحق المؤمن له من ضرر وما تبعه من توسع الفقه في مفهوم الصفة التعويضية . إن هدفنا من تلك الدراسة أن نبحث عن وسيلة لتحقيق هذا التوازن عن طريق التقريب بين أحكام نوعي التأمين على الأشخاص ومن الأضرار .
ولتحقيق ما نبتغيه سنقوم بإبراز مدى عدالة التأمين على الأشخاص من حيث اعتبار الأقساط من حق المؤمن له أو المستفيد وكأنه مال ادخاري, وعدم إسقاط حقه في الأقساط, وعدم توافر الصفة التعويضية في مبلغ التأمين, وذلك خلافاً للوضع القائم في التأمين من الأضرار سواء في صورته المتمثلة في التأمين على الأشياء أو التأمين من المسؤولية .
ولتحقيق ذلك الهدف سنقوم بدراسة النتائج المترتبة على الصفة التعويضية لتأمين الأضرار , ثم سنعالج عيوب كل نتيجة بهدف إزالة الفوارق بين نوعي التأمين ــ التأمين على الأشخاص والتأمين من الأضرار ــ لمحاولة إقامة التوازن في العلاقة العقدية بين المؤمِّن والمؤمن له . 
ولذلك سنخصص لكل نتيجة ميحثاً مستقلاً نعرض فيه الآراء الفقهية والقضائية بصددها, وما يترتب عليها من اختلال في التوازن العقدي, وكيفية علاج ما يترتب عليها من نتائج.
المبحث الأول أهمية عنصر الضرر في التأمين من الأضرار
في التأمين من الأضرار لا يضمن المؤمِّن في تعويضه للمؤمن له إلا الضرر الناتج من وقوع الخطر المؤمن منه, والسبب في ذلك هو الصفة التعويضية لهذا التأمين, وبالتالي لن يستحق المؤمن له أي جزء من مبلغ التأمين إن لم يتحقق الضرر لأن حصوله على مبلغ التأمين دون تحقق ضرر يعني أنه قد أثرى من وراء عقد التأمين وهو الأمر الذي يرفضه الفقه. ويكون من شأن ذلك فقدان المؤمن له لكل مادفعه من أقساط دون أن يحصل على أي مقابل مادي, بل كل ما حصل عليه طوال مدة التأمين هو مجرد إعلان المؤمِّن التزامه بتغطية الأضرار عند حدوثها فقط, وهو مايطلق عليه الفقه شعور المؤمن له بالأمان نتيجة تعهد المؤمِّن بتحمل تبعة الخطر عند تحققه.
بينما يختلف الوضع تماماً" في التأمين على الأشخاص حيث لا يعتبر عقد تعويض عن الضرر حتى ولو كان الهدف الحقيقي من إبرام هذا العقد هو وجود ضرر محتمل وقوعه بالمؤمن له وأنه لم يبرم هذا العقد إلا لمواجهة هذا الضرر, ويبرر الفقه هذا الأمر بأن " المتعاقدين لم يقصدا أن يجعلا مبلغ التأمين هو التعويض عن هذا الضرر ويتوقف على وجوده ويقاس بمقداره, لأن من يؤمن نفسه من المرض أو من الإصابات بمبلغ معين  يذكره في وثيقة التأمين, لم يقصد أن ينال تعويضاً عن الضرر الذي يلحقه من المرض أو من الإصابات, بل قصد أن يتقاضى مبلغ التأمين من المؤمِّن إذا هو مرض أو أصيب, وقد قدر أنه هو المبلغ الذي يحتاج إليه عند المرض أو الإصابة وهو المبلغ الذي يستطيع أن يدفع ما يقابله من أقساط التأمين, ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان هذا المبلغ يعادل الضرر الذي يلحق به أو يزيد عليه أو ينقص عنه وفي بعض صور التأمين على الحياة قد لا يلحق بالمؤمن له أي ضرر كتأمين الزواج وتأمين الأولاد وكالتأمين لحالة البقاء حيث يؤمن نفسه من حادث لا ضرر منه بل هو مرغوب فيه, وهو أن يبقى على قيد الحياة, وقد قصد أن يدبر المال الذي يواجه به تكاليف العيش لا أن ينال تعويضاً" عن ضرر أصابه من بقائه حياً, بل وحتى في حالات التأمين على الأشخاص التي يلحق فيها بالمؤمن له ضرر كالتأمين لحالة الوفاة والتأمين من الإصابات والتأمين من المرض, لا يمكن مقدماً تقدير الضرر, فيترك للطرفين تقديره بحسب اتفاقهما, ولا يخشى إذا كان التقدير مبالغاً فيه من أن يتعمد المؤمن له إيذاء نفسه حتى يحصل على مبلغ التأمين, كما يخشى ذلك في التأمين من الأضرار, فإن الشخص لا يقدم عادة على إيذاء نفسه في شخصه ولو نال من جراء ذلك تعويضاً كبيراً, كما يقدم على إيذاء نفسه في ماله إذا كان ينال من وراء ذلك تعويضاً أكبر من الضرر.
ويرفض الفقه المعاصر اشتراط توافر عنصر المصلحة في التأمين على الأشخاص, حيث يذهب الفقه الآن إلى عدم اشتراط هذا الشرط لإبرام العقد, كما لا يطلب من المؤمن له أن يثبت أن له مصلحة في عدم وقوع الحادث المؤمن منه وأنها قد فاتته بوقوع الحادث فلحقه ضرر من جراء ذلك, وبالتالي فإن المصلحة عنصر مطلوب توافره في جميع أنواع التأمين, ولهذا نجد الدكتور السنهوري قد انتقد هذا الرأي بقوله " إن التأمين على الأشخاص لا يشترط فيه توافر عنصر المصلحة ولا تظهر أهمية اشتراط المصلحة عنصراً في التأمين على الأشخاص إلا في حالة التأمين على حياة الغير, ففي هذه الحالة وحدها يجوز التساؤل عما إذا كان من الضروري أن يكون للمؤمن له مصلحة في بقاء المؤمن على حياته فإذا كان التأمين على حياة شخص غير المؤمن له بُرِّئَت ذمة المؤمن من التزاماته متى تسبب المؤمن له عمداً في وفاة ذلك الشخص, أو وقعت الوفاة بناء على تحريض منه, فإذا كان ما وقع من هذا الشخص مجرد شروع في إحداث الوفاة كان للمؤمن له الحق في أن يستبدل بالمستفيد شخصاً آخر ولو كان المستفيد قد قبل ما اشترط لمصلحته من تأمين ــ ونرى من ذلك أنه حيث يكون المستفيد من التأمين شخصاً غير الشخص المؤمن على حياته, فيخشى أن يعتدي الأول على حياة الثاني, جعل المشرع لهذا الاعتداء جزاء هو أن يرد على المعتدى قصده, فيحرمه من الفائدة التي كان يبغيها من وراء هذا الاعتداء. أما ما يستند إليه أنصار اشتراط عنصر المصلحة في الفقه المصري فجاءت عامة مطلقة, أما وأنها وردت عامة مطلقة فيرد عليه بأنها جعلت محل التأمين كل مصلحة اقتصادية, والمصلحة الاقتصادية لا تقوم إلا في التأمين من الأضرار, أما ما يستند إليه أنصار من يذهب في الفقه المصري إلى أن المصلحة عنصر في جميع أنواع التأمين, أما التأمين على الاشخاص فالمصلحة فيه إن اشترطت لا تكون مصلحة اقتصادية وإنما تكون مصلحة معنوية, وهذا قاطع في أن المشرع المصري إنما قصد أن تتوافر المصلحة بعد أن نعتها بأنها مصلحة اقتصادية , في التأمين من الأضرار دون التأمين على الأشخاص.
وإن كل مصلحة اقتصادية تصلح أن تكون محلاً للتأمين لا تنف أن المصلحة الأدبية تصلح أيضاً" محلاً" للتأمين, فبإمكاننا لا تأمين على أي شيء لمجرد وجود مصلحة أدبية في الحفاظ عليه, وبالتالي فإن القول بالصفة التعويضية في تأمين الأشياء أدى للقول بضرورة توافر المصلحة في تأمينها بينما لا يلزم توافرها في التأمين على الأشخاص, وما استتبع ذلك من القول بأنه لا يوجد تعويض متى لم يحدث ضرر  مادمنا في نطاق التأمين على الأشياء بينما في حالة التأمين على الأشخاص فيستحق مبلغ التأمين سواء أحدث الضرر أم لم يحدث, وفي هذا تفاوت واضح بين مركز المؤمن له في نوعي التأمين يترتب عليه إمكانية فقدان المؤمن له لكل ما دفعه من أقساط دون أن يحصل إلا على مجرد وعد من المؤمِّن بضمان الخطر فقط حتى إذا وقع الخطر دون وقوع ضرر كان المؤمِّن قد أوفى بالتزاماته ولم يؤد أي شيء للمؤمن له الذي فقد كل ما دفعه ولم يحصل على شيء, على خلاف الوضع في التأمين على الأشخاص, وهو الأمر الذي سنعرض له تفصيلاً عند تناولنا لمفهوم المصلحة الاقتصادية في العدد القادم .