تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x
ثقافة تأمينية
الأسس الفنية للتأمين

كتاب: الأحكام العامة لعقد التأمين / د. محمد حسام محمود لطفي

يقوم التأمين على أسس ثلاثة، وهي: التعاون والمقاصة بين الأخطار وعوامل الإحصاء، فلا ينطبق وصف التأمين بمعناه الفني –باعتباره عملية تعاون منظم بين المعرضين للأخطار على أساس إحصائي– على أي عملية إلا إذا قامت على هذه الأسس الثلاثة، ونقوم بشرح وبيان كل أساس منها على حدة.

أولاً: التعاون: يقوم نظام التأمين على فكرة التعاون المنظم بين عدد كبير من الأشخاص المعرضين في أشخاصهم أو في أموالهم أو في الاثنين معاً لأخطار مماثلة (مثل أخطار الحريق، والعجز، والوفاة، وغيرها)، نظير قسط شهري أو سنوي للمهيمن على هذه العملية الذي يُقال له المؤمِّن، فعملية التأمين لا تكلف المؤمِّن، على هذا النحو شيئاً، فهو يضع في اعتباره، أن تغطى قيمة الأقساط المتحصلة عن كل فترة زمنية –عادة سنة– قيمة المبالغ التي سيدفعها لمن سيلحق بهم الخطر المؤمَّن منه خلال هذه الفترة فيعد كل طرف في عقد التأمين مؤمِّناً ومؤمَّناً له في الوقت نفسه.

لذلك استقر الفقه على اعتبار وجود التعاون شرطاً لازماً وعنصراً مميزاً لعملية التأمين. ويظهر هذا التعاون بالنسبة لجمعيات التأمين التعاوني أو التبادلي، حيث يتمتع كل عضو بهاتين الصفتين من دون غموض أو إبهام، وهو أقل وضوحاً في عمليات التأمين التي تقوم بها شركات المساهمة التي تقوم بدور الوسيط بين المؤمَّن لهم جميعاً، فتحصل على الأقساط من كل منهم، وتقوم بتغطية من يصيبه الخطر منهم، رغم عدم معرفة أي منهم للآخر من حصيلة هذه الأقساط.

تطبيقاً لما تقدم، لا يعد تأميناً العمليات التي يترتب عليها نقل عبء خطر ما من على عاتق أحد المتعاقدين إلى عاتق الآخر، كذلك الأمر بالنسبة  للبنود الاتفاقية المعروفة باسم "بنود عدم المسؤولية" واتفاقات دفع إيراد مرتب لمدى الحياة، وعمليات الادخار وتكوين الاحتياطي، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم تحقق التعاون في أي منها.

خلاصة القول: لا تأمين إلا إذا اقتصر دور الوسيط بين المؤمَّن لهم على تنظيم عمليات التعاون بين المؤمَّن لهم المعرضين لأخطار متماثلة من دون أن يتحمل عبء هذه الأخطار.

ثانياً: المقاصة بين الأخطار: يقصد بهذه المقاصة الفنية التي ترمي إلى توفير نوع من الأمان للمؤمِّن –وليس المؤمَّن له-  بشأن تمويل مبالغ التأمين التي قد تستحق عند حدوث الخطر، فيؤمن المؤمِّن بذلك تغطية قيمة الأقساط السنوية التي يحصلها لمبالغ التأمين المستحقة، ويقوم المؤمِّن في إحداث بتجميع أكبر عدد من المخاطر وتصنيفها حسب نوعها، (حرائق وسرقات ووفيات...إلخ)، ثم يقسم كل نوع من أنواع المخاطر حسب الموضوع (فيقسم الحرائق إلى حرائق مساكن وحرائق مصانع، إلخ)، والقيمة (مساكن قيمتها أقل من مبلغ معين، وأخرى تتجاوز هذا المبلغ) ومدة الضمان (سنة أو عشر أو عشرون).

فإذا اتحدت مجموعة من المخاطر في النوع والموضوع والقيمة ومدة الضمان أمكن للمؤمِّن أن يجري عليها عملية المقاصة، وبغير مقاصة جيدة يصعب القول بوجود تأمين فعال.

ثالثاً: عوامل الإحصاء: ويقصد بها العمليات الحسابية التي يتعرف المؤمِّن عن طريقها إلى عدد الحوادث المحتملة الوقوع خلال فترة زمنية معينة، ليحدد مقدار ما أعطى ومقدار ما أخذ على سبيل الربح وتسمى هذه العمليات حساب الاحتمالات، ولا خيار للمؤمِّن إذا أراد أن يبيع الأمان للجمهور، إلا أن يلجأ إلى هذه الحسابات التي تعد بحق أساس عمليات التأمين كلها. حتى يتسنى له تحديد طاقته أي الحد الأقصى الذي يرتضيه كمبلغ تأمين لكل خطر على حدة، ويختلف القانون الإحصائي المستخدم في هذه الحسابات وفقاً لمدى انتظام وقوع هذه الحوادث على النحو الآتي:

بالنسبة للحوادث المنتظمة الوقوع، ينطبق قانون "تكرار الوقائع" فقد أثبت علماء الإحصاء أن الحوادث المختلفة (وفيات طبيعية أو حالات الميلاد مثلاً) تتحقق في ذات الزمان والمكان بنسب ثابتة، ولا يتأتى ضبط أصول هذا القانون إلا بالملاحظة المستمرة لحركة المخاطر المنتظمة.

أما بالنسبة للحوادث التي يحكم وقوعها اعتبارات المصادفة وحدها، فهي تخضع لقانون الكثرة، أو قانون الأعداد الكبيرة، ويقوم هذا القانون على فكرة مؤادها أن توسيع قاعدة الملاحظة والمشاهدة للحوادث التي في ذات الظروف الزمنية والمكانية يؤدي إلى ارتفاع احتمالات تحقيقها، ويجعل من استقراء نسب حدوثها أمراً ميسوراً ويصل بنا إلى نتائج قريبة من الحقيقة.

وبدهي أن هذه الحسابات الرياضية، تتسم نتائجها بطابع تقريبي، لا يصل إلى مرحلة اليقين، لذا فكثيراً ما تحدث "فروق" بين عدد الحوادث المتوقعة، وعدد الحوادث التي تقع فعلاً، ويلجأ المؤمِّن عادة إلى تقليل حجم هذه الفروق عن طريق تطلب اجتماع صفات معينة في الخطر الذي يقبل التأمين منه، هذه الصفات هي: التفرق، والتماثل وأخيراً انتظام الوقوع وذلك على التفصيل الآتي:

  1. تفرق الأخطار: ويقصد بذلك أن يكون تحقق الخطر المؤمَّن منه متفرقاً على مساحات زمنية متباينة، حيث لا يلحق الخطر المؤمَّن منه عند وقوعه إلا ببعض المؤمَّن لهم فقط.

تطبيقاً لهذا، جرى العمل على عدم قبول التأمين بصفة عامة عن بعض المخاطر، مثل أخطار انفجار البراكين، ووقوع الزلال واندلاع الحروب، سواء أكانت الحروب حروباً أهلية أم خارجية، فيتعذر قبول التأمين من هذه المخاطر بسبب عمومية الكارثة وعدم تفرقها، لذا فقد اعتبرها رجال التأمين أخطاراً غير قابلة للتأمين منها.

ويلاحظ أن المقصود بعدم قابلية التأمين في هذا المقام، هو عدم الجدوى الاقتصادية له، فمن الشركات ما تقبل التأمين من هذه المخاطر لأسباب تجارية محضة نظير قسط مرتفع يساوي تقريباً مبلغ التأمين، ليس بمقدور جمهور المتعاملين مع شركات التأمين دفعه. وعلى أي حال فإن هذا النوع من المخاطر يعد مجالاً خصباً للدولة لتضطلع بدورها الاجتماعي.

  1. تماثل (أو تجانس الأخطار): ويقسم المؤمِّن الأخطار المؤمَّن منها إلى مجموعات متماثلة من حيث النوع والمحل والقيمة ومدة الضمان، وهو ما يعبر عنه بالتماثل الكمي والنوعي.
  2. انتظام وقوع الأخطار أو تواترها: يقصد بذلك أن تكون المخاطر المؤمَّن منها منظمة الوقوع طبقاً لقوانين الإحصاء، فتعد الحوادث التي نتعرض لها في الحياة اليومية غير منتظمة الوقوع إذا نظرنا إليها بالنسبة للمجتمع كله.

وعلى هذا الأساس، يتعين استبعاد المخاطر التي يكون وقوعها من الندرة حيث لا يمكن وضع إحصاءات منضبطة لها (كسقوط الشهب من السماء) أو من الكثرة حيث يكون مقابل التأمين منها مرتفعاً على نحو يجعل من التأمين عملية غير مجدية اقتصادياً (كما هو الحال بالنسبة للتأمين من الأخطار السلمية للذرة).

نلخص من هذا كله أن عقد التأمين الذي لا يبرم استناداً إلى هذه الأسس يعد صورة مشوهة ممسوخة للمفهوم القانوني المعاصر للتأمين، وتخضع هذه الصورة لقواعد المضاربة دون سواها على أساس عدم إمكان سحب أحكام التأمين عليها ولو عن طريق القياس.

تبقى الإشارة إلى أحد الأسس الفنية لعمليات التأمين وهو إعادة التأمين، وهي عملية يقدم عليها المؤمِّن –عادة-  لتفادي حدوث أي مفاجآت نتيجة اختلال حساباته الإحصائية، فهذه الحسابات كما سبق القول، لا تعطى نتائج مؤكدة بل تقريبية، لذا يلجأ المؤمِّن الحريص إلى تأمين نفسه من تحقق الخطر الذي قبل التأمين منه لدى مؤمِّن آخر يُقال له المؤمِّن المعيد.

 

بقلم د. محمد حسام محمود لطفي