بين الفينة والأخرى، وخاصة عند وقوع كارثة طبيعية ما تصيب القطاع الزراعي ملحقةً أضراراً بالغةً بالمحاصيل الزراعية ينتج عنها خسائر مادية كبيرة للمزارعين قد تصل إلى مليارات الليرات؛ نتيجة ظروف مناخية سيئة من رياح عاتية أو سيول جارفة أو انحباس أمطار وما يتبعه من جفاف وقحط، أو حرائق، أو أمراض وأوبئة تصيب المحاصيل الزراعية، إضافة إلى حالات النفوق التي قد تتعرض لها أعداد الثروة الحيوانية؛ عندها يتنادى المزارعون ومنظماتهم، والجهات المعنية بالقطاع الزراعي، وحتى المسؤولين والاقتصاديين وأصحاب الشأن... يتنادون ويستصرخون؛ أين التأمين الزراعي؟ من سيعوض المزارعين خسائرهم الفادحة؟ من سيعيل أسرهم؟ من سيخفف من آلامهم؟
وبعد أن تمر الكارثة، وتقوم الجهات المعنية (وزارة الزراعة) بتقديم النزر اليسير من المساعدات للمتضررين من خلال صندوق مخصص لهذا الغرض؛ يُنسى موضوع التأمين ويطوى الحديث عنه إلى أن تفاجئنا كارثة أخرى بعد فترة من الزمن؛ فيعود الحديث والاستغاثة مجدداً عن التأمين الزراعي وضرورته وأهميته، ويُكتب العديد من المقالات، وتعقد بعض الاجتماعات وتتخذ بعض الإجراءات الآنية الإسعافية، ثم ينسى الموضوع ثانية.
وللخروج من هذه الدوامة وعدم تكرارها مستقبلاً؛ لابد من إجراءٍ عمليٍ حقيقي وجديّ في هذا المجال مستند إلى أسس صحيحة وقويمة، أي لابد من اتخاذ قرار حاسم ونهائي لإنهاء حالة التخبط التي نمر بها عند كل كارثة، والتي تقتصر على بعض الإعانات والمساعدات التي لا تكاد ترضي أحداً. إذاً لابد من اتخاذ قرار بإقرار التأمين الزراعي في سورية.
مخاطر القطاع الزراعي وضرورات التأمين:
عادةً ما تتراوح الأخطار التي يتعرض لها القطاع الزراعي لدينا؛ من أخطار نادرة الحدوث كموجات المد البحري، إلى أخطار تعود لعوامل طبيعية مناخية (كالعواصف والفيضانات والبَرَد والصقيع وموجات الحرارة والجفاف)، إلى الأخطار البيولوجية (كالأوبئة والآفات والجوائح المرضية التي يصعب السيطرة عليها ومكافحتها، سواء تلك التي تصيب المحاصيل الزراعية أو التي تصيب الثروة الحيوانية، ولاسيما عند تعرضها للنفوق أو للذبح الاضطراري)، إلى أخطار من صنع الإنسان نفسه (كالحرائق والتلوث البيئي).
ويعد التأمين الزراعي في كثير من دول العالم جزءاً أساسياً من استراتيجيات إدارة المخاطر الزراعية. وإن عملية التأمين الزراعي بحد ذاتها تعد أداةً فعالة لمواجهة عامل المخاطرة الكبير وظاهرة عدم اليقين التي تعتري القطاع الزراعي، إذ لابد منها لتوزيع المخاطر حين حدوثها بين كل أطراف العملية التأمينية (مزارع، حكومة، شركات التأمين).
ومن النواحي الفنية والإجرائية فإن التأمين الزراعي لا يختلف عن غيره من أشكال التأمين الأخرى؛ فهو يقوم على الأسس ذاتها التي تقوم عليها أشكال التأمين الأخرى، من حيث إنه يتضمن نقل المخاطر من المزارع إلى شركة التأمين مقابل قسط محدد يدفعه المزارع إلى شركة التأمين، لتقوم تلك الشركة بتعويضه عن خسائره حين تعرضه لنوع من أنواع المخاطر التي يتفق عليها مع الشركة المؤمِّنة.
ولابد من تطبيق قواعد وأسس الممارسة التأمينية المعروفة على التأمين الزراعي في حال تطبيقه، ولاسيما تحديد قسط التأمين (التسعير) بالاعتماد على تقييم شدة الخطر وتكراره، وكذلك وضع الآلية المناسبة لإدارة المطالبات.
ويمكن للتأمين الزراعي أن يتوجه إما نحو التأمين ضد المخاطر الطبيعية والكوارث، أو التأمين ضد انخفاض الأسعار، أو كليهما معاً.
تجارب تأمينية مبتورة:
حتى الآن لم يتخذ أي قرار فعلي بشأن التأمين الزراعي في سورية. رغم أن جهات حكومية متعددة درست الموضوع، وهناك لجان عديدة شكلت لهذا الشأن، ولكن لم تتوصل أي منها إلى إجراء عملي يمهد للانطلاق بالتأمين الزراعي وإظهاره إلى حيز الوجود. وبقي الموضوع مجرد أفكار أُطلقت، ودراسات ومذكرات أُصدرت، من دون أي خطوات عملية جادة اتُخذت.
ولابد هنا أن نذكر أن هناك تجارب تأمينية قاصرة وغير مكتملة الجوانب والأبعاد، وغير ملبية تماماً للاحتياجات المطلوبة، لبعض الجهات غير الحكومية، ولاسيما اتحاد الغرف الزراعية السورية، حيث وضع نظاماً محدوداً للتأمين على الأبقار فقط (مبدئياً) من خلال ما سمي "صندوق خدمات الماشية" الذي تم تأسيسه في عام 1999، الذي يدار من غرف الزراعة. وهو يمثل التجربة الوحيدة الفريدة في ذلك الحين في مجال توفير تغطية مالية محددة تهدف إلى تعويض المربي عن خسارته عند نفوق إحدى بقراته (بنسبة 75% فقط من قيمة البقرة النافقة)، مقابل بدل مالي محدد (سنوي أو نصف سنوي) يدفعه كاشتراك في هذا التأمين.
وعلى خطوات اتحاد الغرف الزراعية، ولكن بعد نحو عشرين عاماً، وفي عام 2018، قام الاتحاد العام للفلاحين بالحديث عن تأسيس صندوق التأمين على الماشية للفلاحين، ليقترب عمله أكثر من أسس ومبادئ التأمين، وتم تحديد سعر تأمين البقرة بـ3% من قيمتها. إضافة إلى أن تأميناً محدوداً كان قد طبق على الأبقار المستوردة والممولة من المصرف الزراعي.
وكانت وزارة الزراعة قد أدرجت ضمن خططها السابقة (عام 2000) مشروعاً لدراسة إمكانيات تطبيق التأمين الزراعي في سورية، استقدمت من خلاله خبراء من دول ومنظمات عربية ودولية (إيران وأستراليا...)، إضافة إلى الجهات المعنية بهذا المجال (اتحاد الفلاحين واتحاد الغرف الزراعية ووزارة المالية وخبراء الاقتصاد والمال والزراعة في الجامعات السورية وغيرها...) لدراسة إمكانيات تنفيذ نشاطات التأمين الزراعي في سورية، إلا أن كل تلك الجهود لم تُؤتِ أُكلها، ولم تُعطِ الثمار المرجوة منها، نتيجة الخلافات بين الجهات المعنية على مصادر التمويل، ونسب مساهمة كل جهة، والمحاصيل والمناطق التي يمكن البداية بتغطيتها، ومدى الاستفادة من العوائد والأرباح.
ولعل صدور المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 2005 الذي تم بموجبه الترخيص لاثنتي عشرة شركة تأمينية خاصة في سورية، إضافة إلى المؤسسة العامة السورية للتأمين، قد جعل الهمم تفتر والنشاط يتراجع على أمل أن تقوم تلك الشركات التأمينية الخاصة بالولوج إلى هذا النوع من التأمين (علماً أن هذه الشركات مرخص لها العمل في كل مجالات التأمين بما فيه الزراعي)، إلا أن تلك الشركات لم تجرؤ على إدخال نظام التأمين الزراعي في برامج عملها ونشاطاتها، حيث طرحت كل أشكال التأمين باستثناء التأمين الزراعي، ولم تقم بأي خطوة جدية أو عملية باتجاه طرح منتج التأمين الزراعي؛ لصعوبة تنفيذه على ما يبدو، ولعدم وجود الخبرة الكافية لديها في ذلك، وللمخاطر الكبيرة التي لا يمكن لشركات التأمين تحملها وحدها نتيجة أعبائها المالية الضخمة، ولأن القطاع الزراعي قطاع محفوف بالمخاطر الكثيرة التي يصعب تغطيتها جميعاً؛ فهو قطاع غير آمن واحتمالات الخسائر فيه كبيرة.
ورغم كل ذلك؛ فإن الحكومة السورية بذلت، على مدى السنوات الماضية، جهوداً لا بأس بها لدعم الإنتاج الزراعي ولتخفيف آثار الكوارث الطبيعية التي تؤثر فيه؛ فأحدثت صندوقين حكوميين تابعين لوزارة الزراعة لتحقيق هذه الأهداف، هما صندوق دعم الإنتاج الزراعي (الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 29 لعام 2008)، وصندوق التخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية (الصادر بالمرسوم المرسوم التشريعي رقم 114 لعام 2011 والمعدل بالمرسوم رقم 21 لعام 2013)، إلا أن قيم التعويضات التي تقدمها للمزارعين لم تكن بمستوى وحجم الخسائر التي تكبدوها، ولا يمكن وصفها بأكثر من إعانات أو مساعدات.
معوقات تطبيق التأمين الزراعي:
من أبرز المعوقات التي تواجه تطبيق التأمين الزراعي في سورية ما يلي:
1ـ ضعف الإمكانيات والخبرات ولاسيما ما يتعلق بتقدير الأضرار الحاصلة. فالتأمين الزراعي بشقيه النباتي والحيواني؛ تأمين ذو خصوصية عالية ويحتاج إلى كادر فني خبير ومؤهل، وهذا غير موجود حالياً لدى شركات التأمين الخاصة.
2ـ المخاطر الزراعية الكبيرة التي تعتري العمل في القطاع الزراعي، وعدم تجانس تلك المخاطر في مختلف المناطق الزراعية، والتي يمكن أن تؤدي إلى خسائر كارثية، والتعويضات الكبيرة المترتبة عليها؛ والتي قد لا تستطيع شركات التأمين تحملها وحدها، وتحتاج إلى شركات تأمين وإعادة تأمين متخصصة بذلك.
3ـ عدم وجود سجلات منظمة للمزارع يمكن الاعتماد عليها في التقدير، وضعف البيانات التاريخية للكوارث الطبيعية وباقي الأخطار المزمع تأمينها والأضرار التي تسببت بها، ما قد يسبب أخطاء في تقدير أسعار التأمين وبالتالي الأقساط.
4ـ قيام المزارع بالتأمين الانتقائي في حال كان التأمين اختيارياً وليس إلزامياً، إذ سيعمد المزارع إلى تأمين الأخطار السيئة دون الجيدة.
5ـ سوء استخدام التأمين الزراعي، كالمبالغة في ادعاء الأضرار، وعدم بذل العناية الكافية من المزارع لحماية المحصول (أو الثروة الحيوانية) من الخطر، والتراخي في تسديد القروض في حال ربط التمويل بالتأمين، وكذلك الحالات المتعلقة بالنزاهة والعدالة من مقدري الأضرار وشركات التأمين.
6ـ الصعوبات المتعلقة بتحصيل الأقساط في مواعيدها المحددة من شركات التأمين، نتيجة قلة إمكانيات المزارعين المادية وعدم قناعاتهم بالتأمين من أساسه؛ فهم يرغبون بأن تقدم لهم الإعانات والدعم من الحكومة على أن يشاركوا في دفع أقساط التأمين.
ومع كل تلك الصعوبات التي تعوق إطلاق عملية التأمين الزراعي في سورية؛ فإننا نرى ضرورة الانطلاق به لأنه أصبح مطلباً ملحاً، ولم يعد يتحمل المزيد من التأخير والمزيد من المعاناة للمزارعين. ولا بأس بأن تكون البداية محدودة، ثم يتم توسيعها وتطويرها سنة بعد أخرى في ضوء نتائج التطبيق، حيث إن الاستمرار هكذا من دون تأمين سوف يؤدي إلى زيادة التكاليف السنوية على الدولة نتيجة الأضرار والخسائر الناجمة عنه على المدى القريب أو البعيد، والتي تستدعي التعويض على المزارعين من صناديقها القائمة. إضافة إلى المنافع الكبيرة التي سيحققها الاقتصاد الوطني من خلال ضبط هذا الأمر وقوننته، ما يجعل تكاليف هذا التأمين على الدولة (إن ساهمت بدعمه، وهذا المفترض) استثماراً حكومياً مجدياً، وذلك بمقارنته مع التكاليف المتكررة التي يتكبدها المزارعون والاقتصاد الوطني سنوياً نتيجة الخسائر والأضرار التي تنجم عن الكوارث الطبيعية على الاقتصاد الزراعي، التي لا يمر عام دون وقوعها.
ولا يخفى دور التأمين الزراعي في تحقيق الأمن الغذائي من خلال تحقيق الاستقرار للقطاع الزراعي؛ فهو لا يقل أهمية عن أي نشاط اقتصادي آخر في الاقتصاد الوطني.
الآراء المقترحة لتطبيق التأمين الزراعي:
اقتطف هنا –وبتصرف- بعض النقاط التي تم اقتراحها لإطلاق عملية التأمين الزراعي في سورية، من خلال ما صدر عن اجتماعات اللجان والجهات المعنية بالموضوع، ومن خلال باحثين اقتصاديين ومقالات صحفية متعددة، ولاسيما بحث الدكتور رافد محمد بعنوان "التأمين الزراعي في سورية فرص ضائعة وخسائر متتالية" الذي قدمه لمركز مداد للأبحاث والدراسات، أيار2019:
ـ لتكن البداية مع المؤسسة العامة السورية للتأمين لتسويق وثيقة التأمين الزراعي بالتعاون مع وزارتي المالية والزراعة واتحادات الفلاحين والغرف الزراعية والمصرف الزراعي، ووضع الأسس الأولية لإطلاق التأمين الزراعي، وليكن البدء بتأمين المحاصيل الاستراتيجية (القمح، القطن...)، لأن الحكومة تستطيع السيطرة على تسعيرها وتسويقها. وأن يترافق ذلك مع تأمين البندورة المحمية (في البيوت البلاستيكية) نظراً لسهولة حصرها وتمركزها في منطقة جغرافية واحدة، ثم يليها محصول البطاطا.
ـ والخطوة التالية أو المرافقة هي تأمين الثروة الحيوانية ولاسيما الأبقار والأغنام، ثم الدواجن وتربية النحل وغيرها حسب الأهمية، لتوافر إحصائيات جيدة عنها لدى وزارة الزراعة.
ـ ولابد من التدرج في شمول التأمين للمخاطر؛ ولنبدأ بتغطية مخاطر محددة (كالجفاف والعواصف والبَرَد والصقيع والحريق والآفات الزراعية...) لحين توافر الخبرة الكافية التي تمكننا من تشميل كل الأخطار والمحاصيل. ويمكن الاعتماد على مؤشرات الطقس، في حال تأمين الجفاف والصقيع والرياح، بعد التأكد من إمكانيات محطات الرصد الجوي في مراقبة وقياس شدة الظواهر الجوية وانتشارها.
ـ الاعتماد على فروع المصرف الزراعي التعاوني المنتشرة في كل المناطق السورية، في تحصيل الأقساط من المزارعين وسداد التعويضات بالاتفاق مع الجهة التأمينية. وكذلك الاستفادة من الوحدات الإرشادية الزراعية الموزعة في كل مناطق الريف السوري، في إرشاد وتوعية المزارع بأهمية وضرورة التأمين الزراعي. وقبل البدء بالتأمين لابد من إجراء حوار واسع مع المزارعين ومربي الحيوانات للتعرف إلى المخاطر التي تواجههم، ومدى استعدادهم المادي والمعنوي لقبول التأمين الزراعي، والعمل على بناء الثقة لديهم بالتأمين وإدارته.
ـ الاستئناس بأسعار التأمين الزراعي المعتمدة في الدول التي تطبق التأمين الزراعي وذات المحاصيل والمناخ الأقرب إلى سورية، ومراجعة تلك الأسعار باستمرار لتعديلها إن لزم الأمر. مع ضرورة أن تبنى أسعار التأمين على قواعد وبيانات إحصائية دقيقة تتوافق مع أسعار التكاليف الحقيقية، وأن يكون التعويض أيضاً مدروساً والشركات قادرة على دفعه، على أن يتم الاعتماد على البيانات المتوافرة لدى وزارة الزراعة وصندوقي الدعم الزراعي وتخفيف الكوارث، وغيرها من الجهات ذات العلاقة، وكذلك معطيات الأرصاد الجوية. وأن تحدث مراكز رصد لتسجيل الأضرار التي تصيب القطاع الزراعي بشكل واقعي وحقيقي.
ـ لابد من دعم الحكومة بشكل مباشر للتأمين الزراعي بأن تسهم بنسبة من أقساط التأمين لتخفيف الأعباء على الفلاحين، وذلك بما يتناسب مع موارد الخزينة، ومع الإنفاق السنوي على صندوقي دعم الإنتاج الزراعي وتخفيف الكوارث الطبيعية، وإلغاء هذين الصندوقين وتحويل نفقاتهما لمصلحة التأمين الزراعي. هذا إن لم تتوافر شركات لإعادة التأمين الزراعي (الذي لو توافر فسوف يكون هناك انخفاض ملموس في قيم الأقساط). وتم اقتراح أن تصل مساهمة الدولة في الأقساط إلى ٥٠% مع مساهمة المزارع، وأن تصل مساهمة الدولة إلى ٦٠% في حال حصول التعويضات الكارثية عند تجاوز سقوف معينة، ولابد من تأمين وتوسيع محفظة تمويل التأمين الزراعي، وأن يشارك في تحمل الأقساط مع الدولة وشركات التأمين كل من له علاقة في دورة الإنتاج الزراعي بشكل مباشر وغير مباشر من شركات التصدير إلى شركات استيراد المواد الأولية اللازمة للزراعة أو للصناعات الزراعية، وكذلك التجار والصناعيون، وكل الجهات التي تعتمد على مكونات زراعية، من خلال فرض رسوم لتكوين الكتلة النقدية اللازمة لتعويض وتمويل محفظة التأمين الزراعية، على أن تتمتع تلك الشركات بإعفاءات ضريبية وتسهيلات استثمارية كبيرة لتشجيعها على ذلك.
ـ لكي يكون التأمين مجدياً لشركات التأمين الزراعي، وتلافياً لارتفاع نسب المخاطرة لديها، ولاسيما في حال عدم وجود شركات لإعادة التأمين؛ فإنه لابد من توسيع قاعدة المؤمَّن لهم. لذلك تم اقتراح أن يكون الاشتراك في التأمين الزراعي إلزامياً للمزارعين في حال مساهمة الدولة فيه، وفق آليات ضبط محددة؛ كربط التمويل المصرفي (النقدي أو العيني كتسليم الأسمدة والبذار) بالتأمين، واقتطاع أقساط التأمين من قيمة المحصول الذي تستلمه الحكومة من المزارعين. وكذلك يمكن للتسهيلات الائتمانية التي يقدمها المصرف أن تسهم في ذلك.
وبرأيي الخاص فإني لا أستحب أن يكون التأمين الزراعي إلزامياً، إلا إذا كان بناءً على استفتاء لدى جموع الفلاحين وموافقتهم ورضاهم للدخول في هذا التأمين ومشاركتهم فيه. فقد لا يروق هذا الأمر لقطاع كبير منهم. ولقد أبدى الاتحاد العام للفلاحين تحفظات على مقترح وزارة المالية "تطبيق نموذج التأمين الإلزامي للمركبات على الـتأمين الزراعي". حيث يرى أنه لا يجوز تحميل الفلاح المزيد من النفقات والتكاليف الإضافية؛ فيكفي أنه يعاني ثقل تكاليف الإنتاج وصعوبة تأمين المستلزمات الزراعية وصعوبات عمليات النقل والشحن لمنتجاته الزراعية.
الإجراءات الحكومية المتخذة:
إن الخطوات الجادة والعملية المتخذة حتى الآن في هذا المجال لم ترقَ إلى مستوى الطموح المأمول، رغم أن دراسة موضوع التأمين الزراعي مضى عليها أكثر من عشرين عاماً، ومازال الموضوع بين أخذ ورد بين الجهات المعنية، ولم يبصر هذا المشروع النور حتى الآن. ومن الخطوات المتخذة نذكر التالي:
ـ كانت هناك تجربة غير ناجحة لتفعيل التأمين الزراعي في عام 2000 من خلال مشروع قدمته وزارة الزراعة لدراسة إمكانيات تطبيق التأمين الزراعي لدينا بالاستفادة من التجربة الإيرانية.
ـ تمت صياغة مشروع قانون للتأمين الزراعي في عام 2007، وتمت مناقشته في مجلس الشعب، ولكنه لم يرَ النور بسبب اعتراضات اتحاد الفلاحين على بعض مواده، ولاسيما من جهة اقتطاع نسبة مئوية (لا تزيد على 2%) من قيمة المحاصيل الزراعية المسلّمة من الفلاحين إلى الحكومة كرسم تأمين زراعي، وإلحاحه على ضرورة مساهمة الدولة بنسبة 80% من رأس المال في السنوات الثلاث الأولى.
ـ قامت وزارة الزراعة بتشكيل لجنة فنية لوضع مقترحات دراسة مشروع التأمين الزراعي موضع التنفيذ، وإحداث هيئة عامة وصندوق للتأمين الزراعي، وقدمت هيئة الإشراف على التأمين نقاطاً أساسية إلى الجهات المختصة لمناقشتها. وتم اقتراح فتح مكتب في كل فرع من فروع المصرف الزراعي المنتشرة في سورية من أجل إدارة عملية التأمين الزراعي، ووافق المصرف على فتح رقم حساب فقط يستطيع الفلاح من خلاله أن يقدم قيمة القسط (2009).
ـ اقترحت الهيئة المحاصيل التي سيتم التأمين عليها (التبغ– البندورة- الزيتون) كتجربة؛ يمكن من خلالها حصر مبالغ التأمين عن طريق تحديد تكاليف زراعتها وحصر المساحة (2009).
ـ قامت المؤسسة السورية للتأمين بتجهيز بوليصة للتأمين على محاصيل الفواكه (الحمضيات بشكل أولي)، يليه بعد فترة التأمين على المحاصيل الاستراتيجية (كالزيتون وغيره)؛ كما قامت المؤسسة بتجهيز بوليصة للتأمين على الأبقار المستوردة أو المزمع استيرادها بالتعاون مع المصرف الزراعي ووزارة الزراعة، للحد من مخاطر النفوق الطبيعي أو الطارئ (صحيفة الوطن السورية 3/8/2016).
ـ التواصل بين وزارة الزراعة والمؤسسة السورية للتأمين لتوقيع مذكرة لتبادل الخبراء يهدف إلى تأهيل كادر المؤسسة في مجال التأمين الزراعي، وتأهيل خبراء لتقدير القيم التأمينية الزراعية (2016).
ـ عقدت السورية للتأمين في عام 2016 ورشة عمل تحت عنوان "التأمين الزراعي... الأهمية والتحدّيات" تم التطرّق فيها إلى أهمية التأمين الزراعي وانعكاساته الإيجابية على الفلاح والقطاع الزراعي والاقتصاد الوطني بشكل عام، وتم توضيح إجراءات التأمين وآلية بناء المحفظة التأمينية، التي ستصبّ في مصلحة المزارع تماماً، وتقدّم له كل الطمأنينة في تغطية خسارته في حال تعرّض محاصيله لأي كارثة أو ضرر.
ـ قامت هيئة الإشراف على التأمين في عام 2018 بالتعاون مع وزارة الزراعة بوضع محددات عامة للتأمين الزراعي باتجاه تطبيق التأمين الزراعي بشكل مرحلي، وتم توقيع مذكرة تفاهم بين المؤسسة العامة السورية للتأمين ووزارة الزراعة، للإقلاع بالتأمين الزراعي بشقيه النباتي والحيواني. وتم الاتفاق على التأمين على المواشي (الأبقار بدايةً) بالتعاون مع المصرف الزراعي. وفيما يخص التأمين على المنتجات الزراعية فسيتم على مرحلتين، الأولى: تأمين من داخل المزرعة وعلى محاصيل محددة في البداية (الزراعات المحمية ومحاصيل البندورة والبطاطا)، والثانية: من باب المزرعة (أي على عمليات التسويق والتوزيع والتصدير...إلخ).
ـ كلف مجلس الوزراء في عام 2018 وزارتي الزراعة والمالية، إعداد مشروع متكامل عن التأمين على الأعمال والمحاصيل الزراعية ودراسة الأخطار نتيجة العوامل الطبيعية أو أي عوامل أخرى وإمكانية التأمين عليها بشكل عام، مؤكداً دور المؤسسة العامة السورية للتأمين وشركات التأمين الخاصة في ذلك، وأن المطلوب حالياً هو دراسة إمكانية التأمين على الأماكن الزراعية المختلفة، ولاسيما التأمين على البيوت البلاستيكية التي تعرضت لأضرار الرياح.
ـ تقوم وزارة الزراعة بتوفير البيانات المتعلقة بتواتر الأخطار الزراعية، ووضع مؤشرات إحصائية يمكن الاستفادة منها والتعامل معها في مجال عمل التأمين الزراعي مستقبلاً. وتعد مع الجهات المعنية الأخرى دراسة شاملة للتأمين الزراعي على المحاصيل الزراعية بشكل كامل (2018).
ـ أعلن الاتحاد العام للفلاحين أنه جاهز لدعم تمويل هذا المشروع والمساهمة فيه وإنجاحه لما لهذا المشروع من أثر إيجابي في الفلاحين، بما يحققه لهم من حالة من الأمان والاستقرار وعدم التعرض لنكسات حادة (2018).
ـ بحثت وزارة المالية إمكانية تطبيق التأمين الإلزامي الزراعي على المزارعين رغم تحفظ اتحاد الفلاحين على ذلك (2018).
ـ اقترحت المؤسسة العامة السورية للتأمين إقامة صندوق تجريبي، على نطاق ضيق مبدئياً، مدته خمس سنوات لدعم وتشجيع الإنتاج النباتي والحيواني، يهدف إلى المساهمة في معالجة الآثار الناجمة عن الكوارث الطبيعية التي تؤثر في الإنتاج الزراعي، وتشكيل لجنة لتقدير الخسائر الناجمة عن المخاطر الطبيعية بإشراف وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين ومختلف الفعاليات ذات العلاقة وبإدارة المؤسسة العامة السورية للتأمين، وبدعم حكومي لا يزيد على 50%، ونسبة تعويض لا تتجاوز 80% من قيمة غلة المحصول الزراعي (صحيفة الثورة 7/2/2019).
ـ تقوم وزارة الزراعة حالياً بإعداد مشروع قانون للتأمين الزراعي، وهناك دراسات لدى الجهات المعنية لإعداد مشروع بوليصة أولية للتأمين الزراعي تغطي الأضرار الناجمة عن عوامل المناخ، إضافة إلى التأمين ضد انهيار الأسعار (سانا 10/4/2019).
الخاتمة:
من خلال ما سبق، ونظراً لكوننا بلداً زراعياً يرتكز اقتصاده بشكل رئيسي على منتجات ذلك القطاع، يتبين لنا مدى أهمية وضرورة وجود نظم فاعلة تكفل الضمان الاجتماعي والحياة الاقتصادية الرغيدة للمزارع السوري، بما فيها التأمين الزراعي المناسب، وصناديق الدعم والمعونات الزراعية، والراتب التقاعدي للمزارع (حسب اقتراح التنظيم الفلاحي) لما تسهم به تلك الإجراءات من استقرار وتوسع الإنتاج الزراعي وزيادة الكفاءة الإنتاجية، وتشجع على تثبيت الفلاح بأرضه وتمكينه منها. ومن ثم زيادة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتحقيق الأمن الغذائي للمواطن وتأمين منتج زراعي ذي ميزة نسبية وتنافسية تصديرية، ما يشكل رافداً قوياً داعماً للاقتصاد الوطني بشكل عام.
ونأمل أن تشهد المرحلة القريبة القادمة منجزاً حقيقياً بظهور منتج التأمين الزراعي إلى حيز الوجود الفعلي، بما يضمن استقرار المزارع وطمأنينته بوجود مظلة تأمينية قوية تظلله وعائلته من غدرات الزمن وويلاته. ونتمنى على الدولة أن تقدم الدعم الحكومي اللازم له مناصفة مع الفلاح، وأن تقوم بإصدار التشريعات الخاصة بهذا النوع من التأمين، وعندها سوف تتشجع شركات التأمين لتبني هذا النوع من التأمين وإدراجه ضمن برامجها.